من يتفحص قسمات وجه نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني يلحظ أنها لا تتحرك. هل هذا الرجل خال من الشعور. المؤكد أنه خال من القدرة على إقناع العالم أن العراق يملك أسلحة للدمار الشامل. في ختام جولته لأوروبا التي أنهاها في مقر الفاتيكان والتقى البابا على رغم أن أحدهما لا يحب الآخر، ظل تشيني متمسكا بالرواية الأميركية من أن العراق كان يشكل خطرا جديا على أمن الولايات المتحدة وأن من اطلع في ذلك الوقت على الوضع في العراق والتقارير التي وضعتها أجهزة الاستخبارات فإن واشنطن وجدت فيها الأسباب الكافية للمضي بشن حملتها العسكرية ضد صدام حسين.
لكن كثيرا ما حصلت أخطاء وسوء تقدير من قبل أجهزة الاستخبارات. لم تتنبه أجهزة الاستخبارات الغربية لخطة بناء جدار برلين لكن الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول كان أكبر خطأ وقعت فيه أجهزة الأمن الأميركية لأنها تجاهلت معلومات مهمة وردت إليها قبل وقوع الهجوم ثم حصل ما يسمى عراق جيت.
هذه الأيام يعترف وزير الخارجية الأميركي كولن باول بأنه قد لا يتم العثور في العراق على أسلحة للدمار الشامل. انه نفسه وزير الخارجية الأميركي الذي حاول إقناع مجلس الأمن الدولي بتاريخ الخامس من فبراير/ شباط العام 2003 أن صدام حسين يملك ترسانة من الأسلحة الفتاكة: أسلحة كيماوية وبيولوجية كما أنه على وشك إنتاج أسلحة نووية وأنه يعمل مع منظمة(القاعدة). لم تظهر أي من هذه الاتهامات بأنها حقيقة.
هذه ليست مجرد أخطاء وقعت فيها أجهزة الاستخبارات. إنها السياسة. فقد قامت الحكومتان الأميركية والبريطانية باستخدام أجهزة الاستخبارات لخدمة أهدافهما السياسية ورضيت هذه الأجهزة بأن يجري التلاعب بها لهدف الحصول على ذريعة لغزو العراق ولو اضطر بها الأمر إلى اختلاق أكاذيب. إن العمل جنبا إلى جنب بين السياسة وأجهزة الاستخبارات كشف مدى الخطورة التي يمكن أن تنتج عن هذه الصلة. بين الذين شاركوا في اللعبة مسئولون كبار في السي آي إيه وعلى رأسهم مدير الجهاز جورج تينيت. إن خرق حقوق الإنسان في العراق لم يكن ذريعة كافية للحرب لهذا جرى اختلاق قصة أسلحة الدمار الشامل.
تعامل السياسة الأميركية بهذه الطريقة مع أجهزة الاستخبارات ليست من صنع وإبداع إدارة الرئيس جورج دبليو بوش. في العام 1964 خلال حرب فيتنام، تم منع أجهزة الاستخبارات من ذكر حقيقة حادثة وقعت في خليج تونكين لأنه كان بالوسع إثارة بلبلة داخل مجلس الشيوخ لأن هدف الإدارة الأميركية كان الحصول على موافقة (الكونغرس) لمواصلة الحرب. بعد ثلاثة أعوام ذكر أحد عملاء السي آي إيه أن ثوار الفيتكونغ لديهم نصف مليون مقاتل وأنه من المستحيل حسم هذه الحرب. لكن في التقرير الذي حصل عليه مجلس الشيوخ والجنرال وليام ويستمورلاند في سايغون ورد عدد ثوار الفيتكونغ بين 188 ألف و208 آلاف مقاتل ووجدت هذه المعلومات قبولا أفضل. لكن لم يقم أحد من الجنرالات بعملية حساب واحدة في حالة العراق بل تبنت مجموعة صغيرة العمل القذر. هذه المجموعة تشكلت بعد هجوم 11 سبتمبر في وزارة الدفاع الأميركية وأطلق عليها مكتب للمهمات الخاصةOffice for special plans وكانت مهمة هذه المجموعة جمع ذرائع لغزو العراق. من وجهة نظر أعضاء المجموعة فإن السي آي إيه كانت منذ البداية طرفا ضعيفا لأنها لم تحصل على أدلة وجود تعاون بين نظام صدام حسين ومنظمة (القاعدة). أعضاء مكتب المهمات الخاصة كانوا من المتشددين البعض يعرف الآخر منهم منذ السبعينات حين عملوا معا في فريق (أ) الذي كان يرصد الأخطار التي يمكن أن تنشأ من طرف الاتحاد السوفياتي. وتعين على المجموعة أن تعيد العمل بما قامت به في الماضي وقامت هذه الجهة التي من حقها الحصول على جميع المعلومات التي تجمعها أجهزة الاستخبارات وقامت بإعادة طبخها وفقا للوصفة التي تخدم أهداف السياسة وهكذا أصبح بوسع المتآمرين توفير المعلومات التي تناسب أهداف الاستراتيجية الأميركية. وقد تمت هذه اللعبة مع بريطانيا. وسمح جهاز الاستخبارات البريطاني إم16 أن تستخدم حكومة رئيس الوزراء طوني بلير المعلومات وتزيد من خطورتها. من شأن هذا أن يسبب مشكلات كبيرة لبلير إذا وجده اللورد هاتن مذنبا في تقرير قضية المفتش البريطاني ديفيد كيلي. في الولايات المتحدة لم يجر التحقق بشأن صحة معلومة واحدة. كان واضحا أن كبار موظفي السي آي إيه كانوا يشعرون بالقلق بعد 11سبتمبر من خسارة مناصبهم ولهذا تعاملوا مع كل معلومة على أنها حقيقة وأنهم يثقون بصحتها. بينما الإدارة الأميركية كانت تتوقع نجاح صدام حسين بالحصول على القنبلة النووية بعد خمسة أعوام وجد مكتب المهمات الخاصة أن صدام على وشك الحصول عليها بعد عامين. علما أن السي آي إيه لم تحصل على معلومات جديدة بعد أن أغلق العراق أبوابه بوجه المفتشين الدوليين في العام 1998. حين صدرت الأوامر من الجهات السياسية لم تقو أجهزة الاستخبارات على الاعتراض. وقد زار نائب الرئيس الأميركي، ديك تشيني مقر السي آي إيه مرارا لزيادة الضغط على المسئولين في هذا الجهاز. وتجاهلت إدارة بوش تحليل المعلومات لأن الهدف كان: الحرب. لقد مارست السياسة الخداع تجاه مواطنيها في المقام الأول. المشكلة التي سيواجهها بوش أو تشيني في المستقبل في حال تعرضهما لخصم جديد: من سيصدقهما حين يزعمان أن هذا الخصم يملك أسلحة للدمار الشامل؟
العدد 511 - الخميس 29 يناير 2004م الموافق 06 ذي الحجة 1424هـ