كنت مؤخراً في زيارة لبريطانيا. اطلعت من خلالها على عدد من المدن ابتداءً من مدينة لندن مروراً ببرادفورد ويورك وكارليل والاقتراب من حدود اسكتلندة، انتهاء بمنطقة البحيرات (Lake District)، وأخيراً مدينة مانشستر.
وفي الحقيقة كانت لدي معلومات عن بريطانيا بوجه عام قبل هذه الزيارة من خلال قراءاتي عن هذا البلد، بالإضافة إلى المعلومات المتحصلة من الذين سبقوني إلى هذا البلد العتيد والعريق. ولكن من خلال هذه الزيارة صار لدي تجربة ميدانية في هذا البلد امتدت لأكثر من عشرين يوماً. فبالإضافة إلى اطلاعي على معالم هذا البلد الحضارية والتاريخية والإنسانية، لفت نظري احترام القانون من الجميع، كما لفت نظري الحركة الدائبة للناس والآلات، وكلها وفقاً للنظام والقانون، واحترام الزمن/ الوقت وخاصة بالنسبة للمواصلات العامة بمختلف أشكالها داخل المدن وخارجها، وكذلك عدم وجود اختناقات أو ازدحامات مرورية حتى في لندن، وأن المواصلات العامة متوفرة في كل الأوقات، ووفقاً لمواعيدها المحددة ولكل الناس، ومزمار السيارة غير موجود باستثناء مزامير سيارات الإسعاف أو سيارات الحريق.
إلى ذلك، لاحظت في المدن البريطانية التي زرتها أنها تعج بالخيارات بالنسبة للزائر والمقيم، ومن مختلف الأعمار، بحيث يجد كل واحد ضالته. فهي مدن تعج بالمتاحف على اختلاف مسمياتها والتي تلبي مختلف الأذواق والاهتمامات، وهي تعبّر عن تاريخ بريطانيا الاستعماري وما قبل الاستعماري. مدن تعج بالمسارح والمعارض الفنية (كمتحف الشمع) والمعارض الصناعية والتكنولوجية (السيارات والقطارات والآليات)، والمعارض الحربية ومتاحف الكتاب والمكتبات، ومتاحف الكتّاب من قبيل متحف الروائية وكاتبة قصص الاطفال بياتركس بوتر، صاحبة حكاية الأطفال «الأرنوب بيتر»، فضلاً عن متاحف العلم والعلماء، والأسواق النشيطة وآخر الموضات والصيحات.
وفي ظل هذه الخيارات، فإن الزائر لبريطانيا سيجد ما يلبي اهتماماته مهما تكن رغباته صعبة. وأستطيع القول إن لكل المدن التي زرتها خصائصها وميزاتها ونكهتها ورونقها على الصعيد الإنساني والعمراني والحضاري، إذا جاز التعبير. ولكن تبقى لندن سيدة المدن البريطانية باعتبارها مدينة كوسموبوليتكية (عالمية) أولاً، وتمثل النموذج الأول لظهور نمط الاقتصاد الرأسمالي وما يعني ذلك من دلالات ثانياً.
كما تمتاز لندن أكثر من غيرها من المدن البريطانية بالتعددية بالمعنى العام، فهي تعددية على الصعيد البشري، ففيها كل الألوان (بيض، سود وملونون)، وبالتالي فيها تعدد في العقائد والأديان والأفكار والايديولوجيات، وبطبيعة الحال في الأذواق حيث الأكل الشرقي ببهاراته وتوابله جنباً إلى جنب مع المطبخ الغربي. إلى ما هنالك من تنوع وتعدد كما يبدو في الإعلام والصحافة والإعلان والسياسات والمعالم الحضارية المتنوعة القديمة والحديثة.
طبعاً هذا التعدد والتنوع موجود في المدن الأخرى كما في مانشستر، المدينة الثانية في انجلترا، وبشكل أكبر في برادفورد حيث تمثل مكاناً مناسباً للقادمين من شبه القارة الهندية، وقد انعكست ثقافتهم إلى حدٍّ ما على تلك المدينة. لكن لندن تمثل النموذج الأكثر عياناً للتعدد والتنوع كمدينة امبراطورية.
الأكثر أهميةً، ولفت نظري ليس المدن البريطانية إنما هو الريف البريطاني على امتداده وسعته. وقد حاولت قدر الإمكان الاطلاع على هذا الريف بمناطقه من خلال التماس المباشر مع هذا الريف بناسه وطبيعته. وهنا لابد من الإشارة إلى فكرة العلاقة بين المدينة والريف على أنها علاقة تواصلية، بمعنى آخر لم أستطع أن أجد حدوداً تقول هنا انتهت المدينة وهنا بدأ الريف، بل وجدت نوعاً من التواصل بين المدينة والريف من خلال نمط معماري مديني قائم على أساس مبدأ المدينة المنطقة المفتوحة، وليست المحصنة، أي المدينة المفتوحة على الريف والعكس صحيح. وهذا كأنه تحقيق لما ورد في البيان الشيوعي (1848) لماركس وانجلز من ضرورة إلغاء الفواصل بين الريف والمدينة، أو مزج العمل الزراعي بالعمل الصناعي وإلغاء التمييز بين المدينة والريف، أو ما يعرف بالمدينة الحديقة.
ووفقاً لما شاهدته في المدن التي زرتها، فإنها أقرب في التصميم إلى المدينة في اليونان القديمة حيث الانفتاح، وليس على غرار المدينة الرومانية حيث الانغلاق بالقلاع والحصون والاسوار.
أعود إلى الريف البريطاني لأقول إنه يمتاز بمجموعة من الخصائص كلها تتظافر للحفاظ عليه وعلى أصالته بحيث يكون بيئة جاذبة، فهو ريف هادىء وجميل ومحمي بالقوانين وثقافة الناس، كما أنه بعيد عن عبث الإنسان ويمتاز بخضرته الدائمة على امتداد البصر وعلى كامل مساحة الأرض.
الزحف العمراني أو التعسف في اجتثاث الغابات غير موجود والمدينة صديقة للريف والعكس صحيح. إنه مكان مناسب للإستجمام ولمختلف أنواع الرياضات والهوايات بما في ذلك تسلق الجبال.
وبالفعل قضيت أكثر من أسبوع في منطقة البحيرات، وهي من أجمل المناطق في انجلترا حيث توجد عشر بحيرات أكبرها بحيرة «وندرمير» وأصغرها بحيرة «ريدال». وهي منطقة جذب سياحي تبدأ بالربيع وتنتهي مع بداية الخريف.
منطقة البحيرات تعتبر منطقة محمية وطنية وهي تحتوي على مناظر طبيعية خلابة، أما الناس في هذه المنطقة وقراها فيمتازون بأريحيتهم وبساطتهم. والقرى في هذه المنطقة عددها كبير لكنها في المحصلة قرى صغيرة جداً، كل قرية لا تتجاوز عدة بيوت، وما بين هذه القرى وبيئتهم ألفة، كما أن بيوتهم متناغمة إلى حد كبير مع البيئة الطبيعية للمنطقة، بمعنى أنهم يشيدون بيوتاً صديقة للبيئة ومن البيئة.
لقد استمتعت إلى أبعد الحدود بالتجول في هذه المنطقة كما تمتعت بمناظرها الخلابة وأجوائها المتقلبة الصحو أحياناً، والماطرة أحياناً أخرى، الدافئة حيناً والباردة أحياناً أخرى. ولكنها في كل الأحوال كانت تمثل متعة للنظر والروح ما بعدها متعة.
وبالمقابل وأنا أجول في الريف البريطاني تذكرت ريف بلدي فخالطني شعور بالحنين إلى الأيام الخوالي عندما كنا أطفالاً نلعب في ريف بلدنا، وقد كان لا يقل روعة وجمالاً عن الريف البريطاني حيث غابات النخيل والأشجار المثمرة وغير المثمرة، والأرض المخضرة دائماً، وقصب الغابات والمياه والجداول منتشر في كل مكان، تغطّي مساحة لا بأس بها من البحرين، وشعور آخر حزين على ما وصلت إليه حال الريف على الصعيدين البيئي والعمراني، حيث كل شيء معادٍ للبيئة ابتداءً من المنازل وليس انتهاء بالشوارع.
لقد أصبح ريفنا في خبر كان، حيث التصحر وتجريف التربة في كل مكان، وغابات النخيل لم تعد شيئاً مذكوراً، والزحف العمراني المعادي للبيئة الريفية لا يكترث بمعالم البيئة الريفية ولا بغطائها النباتي.
لاشك أن الفرق شاسع بين ريفنا بوضعه الحالي الآيل للزوال بحكم الممارسة الإنسانية المعادية لطبيعة الريف من جهة، والريف البريطاني الأخضر اليانع والمصر على البقاء بحكم القانون الذي يحميه ووعي الناس المتقدم بأهمية الحفاظ على بيئتهم الطبيعية.
أخيراً، وكما كان ريفنا مثلَ ريفهم في يوم ما وقبل عدة عقود، فإن بإمكاننا أن نستعيد هذا الريف وذلك من خلال سياسات بناءة وهادفة وحمائية تمنع الأيادي العابثة بمقدراته، وتعيد لهذا الريف جماله، وتعيد تأهيله باعتباره ملكاً وتراثاً للأجيال الحاضرة والمستقبلية.
وفي هذا السياق يمكن الاستفادة من تجربة الشعب البريطاني في كيفية حماية أريافه وتطويرها بما يتناسب وإمكانيات البيئة وثقافة المجتمع في بلدنا. فهل نفعل ذلك؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 5109 - الخميس 01 سبتمبر 2016م الموافق 29 ذي القعدة 1437هـ
مقال جيد لكن لا توجد مقارنة بيننا وبينهم. أصلا لا توجد مقارنة بين مدننا العريقة والمتهالكة ومدنهم ولا بين أريافنا البائسة وأريافهم. هناك اهتمام رسمي بتطوير البلدان وهنا اهتمام رسمي بحرق البلدان، كل البلدان العربية