جاء في حكايا التراث الشعبي أنه كان هناك حمارٌ وثور يعملان في مزرعة. أما الحمار فقد «أبطرته الراحة» وأما الثور فقد «أذله التعب». فقَصَدَ الثورُ الحمارَ شاكياً له أمره قائلاً له: هل لكَ أن تنصحني كي أخرج من تعبي هذا؟ فقال له الحمار: أقترح عليك أن تدّعي المرض وتمتنع عن الأكل. وحين يراك صاحب مزرعتنا سيتركك ولن يذهب بك إلى حراثة الحقل، وبالتالي تتخلص مما أنت فيه.

أخذ الثور بنصيحة الحمار دون أن يعلم أن صاحب المرزعة سمع حديثهما. وعند الصباح جاء مالِكهما فشاهد طعام الثور لم يُمَس والأخير يتأوّه، فتركه وأخذ الحمار إلى الحقل بدلاً عنه، فظلّ الحمار يعمل حتى كاد أن يهلك. فأصابه الندم على ما قدمه إلى الثور من نصيحة، فقرر أن يقوم بخطة تعيد له راحته. فلما رجع من الحقل إلى الحظيرة سأل الثورُ الحمارَ فبدأ الأخير بتطبيق خطته.

قال الحمار: الحقيقة أنني بخير وفي أحسن حال لكنني سمعت خبراً محزناً فخفت عليك. عاجَلَهُ الثور بالسؤال وبإلحاح عن ذلك الخبر، فقال الحمار: سمعت صاحب مزرعتنا يقول إن الثور إنْ بقِيَ مريضاً فلابدّ من ذبحه في أسرع وقت؛ كي لا نخسر ثمنه. لذلك أنصحك أن تسارع إلى أكل طعامك وترجع إلى عادتك الأولى وإلاّ فسيذبحك. فقام الثورُ فوراً وأكل وأظهر عافيته لصاحبه، وبذلك نجحت الخطة وأعِيدَ الثور إلى حراثة الحقل وهو في مشقة، وعاد الحمار إلى راحته كما كان.

هذه القصة «الشعبية» تُروَى عن قليل الرأي، الذي يندفع ليكتشف أن ما قام به من عمل هو بالأساس وبالٌ عليه. وهذا الأمر قد يكون صغيراً في الحالات الصغيرة، لكنه قد يكون كبيراً هائلاً في أثره حين يتعلق بالأشياء الكبيرة كما في إدارة الدول والأمم، وهو ما أريد أن أتحدث عنه. فأكثر الأشياء مهلكة للزعامات والحكام هو قلّة رأيهم وفي ذات الأوان، عدم جمع عقول الناس إلى عقولهم كي يتقوَّموا.

وقد ذكروا أن محمد الأمين، شقيق الخليفة العباسي عبدالله المأمون كان كذلك، حيث وصفه الذهبي بأنه «كان مبذّراً للأموال قليل الرأي كثير اللعب». وكانت قلة رأيه هي مدخل موته على يد طاهر بن الحسين. وكذلك الحال مع عبدالله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله آخر الخلفاء العباسيين بالعراق حيث كان «هيناً لينًا ضعيف الرأي» كما وصفه الرواة.

وقد ذُمَّ هذا الأمر في الإنسان (فضلاً عن الحاكم) ووضعه ابن سيده ضمن ما وضع من السَّفَه والجنون وغيره، لذلك قال في وصف صاحبه بالرجل الإمَّع. كما أن صاحب الرأي الضعيف قُرِنَ ليس بالضعف فقط، بل بالسخف والسقم والوهن والسوء والفساد والسقوط والعجز والطيش كما أشار اليازجي. كما أن بعضهم اعتبر كل مَنْ يخالف أهل الرأي السديد أنه ضعيف رأي.

ولا يُظَن أن الحزم هو من سداد الرأي حتماً، أو أن اللين هو من قلة العقل دوماً، فهذا القطع ليس صحيحاً. ولو كان الأمر بمثل ما يعتقد البعض لما لقِيَ طاهر بن الحسين الذي كان حازماً ما لقيه الأمين. فالأمر ليس متعلقاً بالحزم واللين بقدر ما هو متعلق بالمشورة فيهما من ذوي الحِجَا وترجيح اللين على الشِّدة؛ لأن القلوب تميل إلى مَنْ يُحسن إليها فـ «الرأي السديد أحمى من البطل الشديد».

وقد قالوا إن الحكيم «إذا أراد أمراً شاور فيه الرجال وإن كان عالماً خبيراً؛ لأن من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل»، كما قيل، فكيف بمن تدور به دوائر الحكم وتناقضات الناس ومصالحهم وشئونهم. وقد ذكر لويس شيخو ما قال الحسن بأن «الناس ثلاثة: فرجل رجل، ورجل نصف رجل، ورجل لا رجل. فأما الرجل الرجل فذو الرأي والمشورة. وأما الرجل الذي هو نصف رجل فالذي له رأي ولا يشاور. وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي ليس له رأي ولا يشاور». فـ «لا ظهر أقوى من المشورة».

والمشورة هنا ليست أيّ مشورة، بل هي التي تُصلِح الحال وتقطع السجال وتكسب الرجال وتمنع الشيء من الزوال. فلا خيرة في رأي ابن زنباع حين قال: ما انتطح فيه عنزان، بل في رأي بن ذؤيب: حين قال: «لا تفعل، فإنك تبعث بهذا على نفسك العار، فالرأي كله في الأناة والعجلة فيها ما فيها».

وقد رُفِعَ لأحد الخلفاء يوماً أن قوماً اجتمعوا على المعصية فاستشار وزيره فقال: يُصلَب بعضهم ويُحرَق آخرون منهم. فقال له الخليفة: ويحك، لقد بَرَّدْتَ لَهَبَ غضبي عليهم بقسوتك، أما علمت أن الرعية وديعة الله عند سلطانها، وأنه سائله عنها ولم يُقابلهم بما قال الوزير كما ذكر ابن الأثير.

في المحصلة، فإن المسئولية هنا جسيمة. أولاّ مسئولية أن تتحدث بقلة رأي في شيء فتدفع نحو الفساد وإزهاق الأرواح والغلظة على النار. أو أن يتم تبنِّي مثل تلك الآراء التي أظهرت لنا كيف أن الدول السابقة حين تبنتها.