كان من الخطأ أصلا أن يرفع مجلس النواب جميع التوصيات المتعلقة بأوضاع هيئتي التقاعد والتأمينات إلى الحكومة. ذلك أن بعضها منوط به باعتباره سلطة تشريعية، وأخرى منوطة بمجلس إدارة الهيئتين إذ ينص القانون المنظم لعملهما على أنهما مؤسستان تحظيان بشخصية اعتبارية واستقلالية، وخصوصا هيئة التأمينات الاجتماعية التي لا تدفع الحكومة أيا من أموالها.
إن انعكاسات هذا الإجراء غير المدروس الذي يدل على قلة خبرة غالبية النواب سيتراءى بعد انتهاء مدة الشهر ونصف الشهر التي أتيحت للحكومة للتنفيذ، إذ سيمكنها من ان تكون سيد الموقف من جديد بعد ان كانت في وضع حرج تتلقى اللكمات واحدة تلو الأخرى، وهي تفتعل الضحك والابتسام والترحيب بالنقد اللاذع الموجه إليها، وتعطي إشارة مختلفة إلى الصحافة والكتاب.
معلوم أن مجلس النواب رفع جل التوصيات - التي اقترحها تقرير لجنة التحقيق البرلمانية، وعشر توصيات تمت إضافتها لاحقا - إلى الحكومة، ولم يوافق على توصية رفع نسبة الاشتراكات إلى 21 في المئة.
واحدة من التوصيات تتعلق بـ «مطالبة الحكومة والجهات المعنية بارجاع المستحقات المفقودة من الهيئتين»، ويبدو النص مدركا للثغرات التي يمكن أن تستفيد منها الحكومة للتهرب من الاستحقاقات المطلوبة، فلم يكتف بذكر الحكومة وإنما ذكر صراحة «الجهات المعنية»، ذلك أن قرضا كالذي سُلم إلى شركة الفنادق الوطنية يجب على هذه الشركة أن ترجعه، لا أن تلتزم الحكومة بإرجاعه من الموازنة العامة.
البيان الصادر من مجلس الوزراء بعد اجتماعه يوم الأحد 25 يناير/ كانون الثاني الجاري ذكر أن الحكومة سترجع قرض مركز أرض المعارض البالغ قدره نحو 5,2 ملايين دينار وفوائده وهذا التزام بمطالب النواب، أما دفع قرض شركة الفنادق الوطنية فهو خلاف التوصيات التي دعت «الجهات» المستفيدة من القرض إلى دفعه. ولا يُعرف كيف سيتعاطى النواب مع هذا الإخلال، في ضوء تشديد المصادر الحكومية على أن المطالبة بدفع الأموال خارج إطار الموازنة العامة (جيب الناس) أمر غير عملي.
توصية أخرى وردت في قائمة التوصيات تتعلق بـ «مراجعة وتحديث القوانين والأنظمة كافة واللوائح الإدارية والرقابية...». وأظن أن مجلس النواب أخطأ كثيرا حين رفع هذه التوصية إلى الحكومة. وكأنه يدعوها إلى التدخل أكثر وأكثر في نشاط الهيئتين، علما بأن تقرير لجنة التحقيق كان حمّل مجلس الوزراء المسئولية الكاملة عن التدهور في أوضاع الهيئتين.
ومن بين التوصيات «العمل على استقطاب القيادات الإدارية المتميزة، وضخ الدماء الجديدة للجهاز التنفيذي في كلا الهيئتين»، فهذه أيضا مهمة الهيئتين، لا مهمة الحكومة. لأن مجلس الإدارة يفترض أن يكون الجهة المنوط بها تصحيح الأوضاع «الداخلية».
الكلام نفسه ينطبق على التوصية بـ «ضرورة إنشاء جهاز للتدقيق الداخلي (...) وتأكيد تدوير المدققين الخارجيين كل ثلاث سنوات» أو التوصية بـ «ضرورة إيجاد دليل مالي وإداري فاعل لكلا الهيئتين...»، فما دخل الحكومة بهذه الأمور الإدارية، هذه أمور يقوم بعملها مجلس الإدارة والجهاز التنفيذي.
بعبارة واحدة، جل التوصيات الواردة في تقرير لجنة التحقيق والمتعلقة بالمستوى التنظيمي والإداري، والاستثمار وعوائده منوطة بالنواب أو بمجلس الإدارة، إلا إذا نسي المجلس المنتخب انه لام الحكومة على تدخلها وتوجيهها الاستثمارات «توجيها سياسيا» أضر بأموال المشتركين.
إلى ذلك، توجد توصيات يفترض أن مجلس النواب هو المنوط بالاشتغال بها، وليس الحكومة. وأبرزها التوصية المتعلقة بـ «ضرورة إعادة هيكلة مجلسي الإدارة في الهيئتين بغرض تمثيل متكافئ لأصحاب المصلحة، وخلق توازن داخل مجلسي الإدارة...». هذا عمل منوط بالسلطة التشريعية، وكان الأولى أن تبادر إلى اقتراح قانون يعطي فرصا متكافئة للأطراف المعنية، وخصوصا في التأمينات التي تهيمن الحكومة عليها بـ 8 مقاعد من أصل 11 مقعدا.
أما التوصية المتعلقة برفع نسبة الاشتراكات - والتي لم ترفع إلى الحكومة - فإن ذلك تم من دون إدراك للأبعاد التي أشير إليها أعلاه، بل خوفا من إقدام الحكومة على رفع النسبة، والحال أن مجلس النواب هو الذي يفترض أن يكون صاحب هذا الحق، لأن هذه المسألة تحتاج إلى علاج تشريعي.
ما جرى هو المتوقع. وهو الذي أشارت «الوسط» إليه مرات عدة خلال الأيام القليلة الماضية، ذلك أن الحكومة لا تمانع من تنفيذ توصيات تتعلق بتحسين الوضع الإداري في الهيئتين، لأنها تعلم أن معارضتها لا معنى لها من الناحية القانونية والعملية، وخلاف الحكومة ظل طوال الأيام الماضية على مسألة المساس بالوزراء سياسيا.
ولتفادي الإرباك الذي سيحصل مستقبلا من جراء رفع توصيات إلى الجهة غير المعنية (الحكومة) كان يكفي أن يلزم النواب الحكومة بتنفيذ توصيتين فقط، هما: محاسبة المسئولين عن التجاوزات بمن فيهم الوزراء، وإرجاع أموال الهيئتين، علما بأن الموازنة العامة أقرت بقانون وأي تعديل فيها يتطلب معالجة تشريعية. أما التوصيات الأخرى فتتم معالجتها بطرق أخرى وليس إحالتها إلى الحكومة.
في هذه الحال، يمكن الحديث عن أهداف محددة في التعاطي مع الحكومة، ومع النواب الموالين أو القريبين منها أو الذين يمكنها أن تؤثر عليهم. أما أن تقدم عشرات التوصيات إلى الحكومة فهذا يعني الدخول في تفاصيل تضيع (الطاسة).
لذلك، فمن المتوقع أن يدخل النواب مطلع مارس/ آذار المقبل في جدل مع الحكومة، إن كانت نفذت التوصيات أم لم تنفذها، وفي الغالب ستتمكن من سحب البساط من تحت أقدام الراغبين في استثمار الملف استثمارا سياسيا، والذين صرحوا بضرورة استبدال «الناطور، وليس إرجاع العنب» فقط.
الغالب أن يخسر النواب ذلك لأن الموضوع لا يتعلق بالاستجواب الممكن توجيهه من قبل خمسة نواب فقط، ولكن الغاية السياسية - بحسب الفهم البرلماني - هي طرح الثقة، وهذا قد يتعذر فعله، على رغم إصرار مصادر نيابية على أنها أوشكت على جمع العدد المطلوب (27 نائبا) للتصديق على طرح الثقة.
وستزداد صعوبة النواب المتشددين في طرح الثقة بعد تصريح رئيس الوزراء صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة الذي قام بزيارة لوزارة المالية أمس الأول، إذ نقلت وكالة الأنباء الرسمية (بنا) أن سموه أعرب «عن شكره وتقديره للجهود التي توالي بذلها الوزارة والقائمون عليها، مجددا سموه الثقة بالرجال المخلصين والكوادر الوطنية العاملة في أجهزة الدولة ووزاراتها ومؤسساتها كافة»، مشيرا سموه إلى «أن هذه الكوادر تستحق منا كل الشكر والثناء والدعم لإخلاصها وولائها لهذا الوطن المعطاء ولجهودها التي قامت بها طوال خدمتها». وأمر مفهوم أن تتضامن الحكومة مع بعضها، وأن يقود رئيسها هذا التضامن.
بعض النواب يعولون كثيرا على تصريحات جلالة الملك، وتصريحات رئيس الوزراء المؤيدة لنشاط النواب وأدائهم «التاريخي» بحسب كلام سمو الشيخ خليفة. في حين كان جلالة الملك مرتاحا، وقال: «إن هذا الارتياح كان مبعثه أن المجلس استلهم نبض المجتمع وعمل على تفعيل أدوات الرقابة المالية والإدارية حفاظا على حرمة الأموال العامة وسعيه الحثيث لاتخاذ كل الوسائل التي تكفل صيانة هذه الأموال واختيار افضل السبل الاقتصادية لاستثماره».
إلى جانب المادة 45 من قانون مجلسي الشورى والنواب، سيواجه النواب الراغبون في تقديم استجوابات صعوبات أخرى. إذ لا يمكن بحسب اللوائح المنظمة لعمل النواب أن يستوجب وزير سياسيا (لا قضائيا) عن نشاط كان يقوم به وهو يشغل حقيبة وزراية أخرى.
وتشترط المادة 145 من اللائحة الداخلية ألا يكون الاستجواب متضمنا «أو أن يكون متعلقا بأمور لا تدخل في اختصاص الوزير المستجوب أو باعمال أو تصرفات سابقة على توليه الوزارة»، وبما أن وزير العمل السابق عبدالنبي الشعلة ترك وزارته قبل انعقاد البرلمان فلا يمكن توجيه الاستجواب إليه عما جرى في هيئة التأمينات.
والكل يتذكر ما حدث في الكويت حين أراد البرلمان استجواب وزير الإعلام السابق سعود ناصر الصباح، فقامت الحكومة الكويتية بإجراء تغيير وزاري محدود، وعُين الصباح وزيرا للنفط بدل الإعلام فسقط الاستجواب عنه.
هذا ما تردده الأروقة الحكومية، وهو صحيح. ولكن الصحيح أن أخطاء وقعت ولابد من مساءلة المسئول عنها بشكل أو آخر، حتى نرسي أعرافا بأن معادلة «عفا الله عما سلف» شعار مات منذ بدء المشروع الإصلاحي، وتصويت الناس على ميثاق العمل الوطني.
يحتاج الأعضاء النشطون في مجلس النواب إلى بذل جهد أكبر للوصول إلى مبتغاهم في محاصرة الفساد، وفي تثبيت أعراف تسمح للبرلمان بأن يكون شريكا في بعض الأمور على الأقل. ويمكن للنواب الارتكاز على تصريحات القيادة السياسية الداعمة لسياسة صيانة المال العام.
وربما هنا يأتي دور ديوان الرقابة المالية، والنيابة العامة، اللذين من الأفضل أن يتدخلا لاختبار ما ردده النواب من اتهامات
العدد 510 - الأربعاء 28 يناير 2004م الموافق 05 ذي الحجة 1424هـ