بعد نقاشات حامية في مجلس النّواب العراقي، واحتجاجات شعبية عارمة، لا سيّما من جانب منظمات المجتمع المدني والعديد من الأنشطة والفعاليات الثقافية والفكرية والسياسية، اضطرّ المجلس أخيراً إلى تأجيل التّصويت على قانون «حرّية التّعبير»، وأحاله إلى لجان مختصّة لإعادة صياغته، الأمر الذي قد يستغرق أعواماً عدّة أخرى للتوصّل إلى توافقات بشأنه، مثله مثل قانون الأحزاب وتعديلات الدستور «المنتظرة»، تلك التي تقرّرت منذ أكثر من عشرة أعوام، لكنها لم تتحرّك قيد أنملة، وظلّ الوضع على ما هو عليه ساكناً، بسبب الاختلافات السياسية، وتعارضات الكتل الانتخابية، وبالطبع بسبب تنازع المصالح، الذي يعود إلى نظام الغنائمية الذي صمّمه بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق بعد الاحتلال (13 مايو/ أيار 2003 – 28 يونيو/ حزيران 2004) والذي يقوم على المحاصصة الطائفية – والإثنية باعتماد الطرائق الزبائنية.
وكانت ساحة التّحرير في بغداد، قد شهدت تظاهرة متميّزة ومحدّدة الأهداف، دعت إليها منظمات المجتمع المدني في 17 يوليو/ تموز 2016، هدفها منع إمرار مشروع القانون الذي يقيّد حرّية التعبير عن الرأي، والحق في التظاهر السلمي، اللذين كفلهما دستور العام 2005 (الدائم)، على الرغم من احتوائه على الكثير من الألغام، وتعطّل الكثير من مواده التي اشترطت صدور قوانين لاحقة لتنظيمها، ولكنها لم تصدر، وهكذا بقيت نحو 50 مادة دستورية عائمة، ولم يتم تحريك إلاّ العدد القليل منها، خصوصاً في ظلّ احتدامات المشهد السياسي.
وتضمن المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك العهد الدولي لحقوق الإنسان الصادر في العام 1966، والداخل حيّز التنفيذ العام 1976، حق التعبير والحق في الحصول على المعلومات وتبادلها ونشرها بحرّية، وهو ما حاول مشروع القانون الخاص بحرّية التعبير في العراق، تقليص فسحة الحرّية فيه، الأمر الذي يعدّ تضييقاً صريحاً وواضحاً لحرّية التعبير، وتناقضاً مع ما جاء به الدستور العراقي، من إقرار لهذه الحرّية، فضلاً عن أن توقيت المناقشة والتصويت يأتي على خلفية حركة الاحتجاج الشعبية الواسعة، منذ يوليو 2015، والتي وصلت لذروتها في ربيع العام الجاري (مارس –أبريل)، تلك التي أثارت قلقاً لدى الجهات المتنفّذة في الحكومة وفي مجلس النّواب، الأمر الذي استهدف مشروع القانون تقليصه، بوضع عقبات وروادع إزاء حق التعبير، حيث يمكن أن يتّهم أي إنسان بالتجاوز أو الانتهاك للقانون عند تشريعه، لمجرد قول رأي حر، يمكن تفسيره بتأليب الصراع.
لم يكن تأجيل البت في مشروع القانون بإرجاء التصويت عليه، أمراً سهلاً، لكن الرفض الشعبي من جهة والتجاذبات داخل البرلمان، من جهة ثانية أدّيا إلى ذلك، خصوصاً وقد انضمّ عدد من النّواب إلى المحتجين، فاعتبروا مشروع القانون مخالفاً للدستور وللمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما حدا ببعض الأوساط المندفعة لتشريع القانون إلى التراجع والقبول بتأجيل التصويت على المشروع، لكي لا يزداد الموقف توتّراً وقتامة، خصوصاً بعد الهزّات التي تعرّض لها البرلمان بإقالة رئيسه وتعويم اجتماعاته، وكانت اللجنة القانونية واللجنة الثقافية وبعض رؤساء الكتل قد أبدوا تحفّظات على مشروع القانون.
أراد البعض من المتحمسين للقانون والذين لا ترضيهم حركة الاحتجاج والمطالبة بالإصلاح والتغيير وكشف رموز الفساد، ومعالجة قضايا التزوير والاستهتار بالمال العام وهدر موارد الدولة، التعكّز على نص المادة 38 من الدستور التي اشترطت ممارسة حرّية التعبير عن الرأي، بكل الوسائل، وحرية الصحافة والطباعة والإعلام والإعلان والنشر وحرّية الاجتماع والتظاهر السلمي، بما لا يخلّ بالنظام العام والآداب.
وهذا «الذيل» الأخير من المادة المذكورة، جاء عاماً ومطّاطاً ويحتوي على الغموض والإبهام، وله تفسيرات مختلفة، تتعلّق بالزمان والمكان، وتتبدّل الأحكام وفقاً لتبدّل الأزمان كما يُقال، وقد يكون سلوك ما مخالفاً للآداب في مكان، لكنه غير مخالف في مكان آخر، مثلما توجد اختلافات في التقييم بين منطقة وأخرى، إذْ لا يمكن وضع مدينة الصدر «الثورة» سابقاً، على نفس الدرجة مع منطقة المسبح أو مدينة المنصور مثلاً، ناهيك عن تفسيرات تستوجب التحديد، وهو ما كان يفترض من المشرّع أن يتوقّف عندها، لا بغرض التقييد، بل بهدف مواءمتها مع القواعد الدولية العامة والمبادىء الدستورية للدولة العصرية وشرعة حقوق الإنسان الدولية، خصوصاً مع المادة 19 التي تمت الإشارة إليها.
إن الميل إلى التضييق والتقييد، إنما هو مخالفة لنص المادة 46 من الدستور العراقي، التي ذهبت إلى: «أن التحديد والتقييد القانوني لممارسة أي حق من الحقوق والحرّيات الواردة في الدستور، ينبغي أن لا يمسّ جوهر الحق والحرية»، وبالتالي، فإن الاعتراض على القانون يتعلّق بمساسه بصميم مستقبل الحقوق والحريات والقواعد الديمقراطية والالتزامات الدولية.
لقد شهد العراق في تاريخه المعاصر أنماطاً مختلفة من التقييد على حرّية التعبير قانونياً وعملياً، كلّها تندرج بصيغة العزل السياسي، فتارة بزعم مكافحة «الأفكار الهدّامة»، وأخرى تحت مسمّى «مصلحة الثورة»، وثالثة لا حرّية لأعداء الشعب أو لا حرّية لأعداء الحرّية وأعداء الديمقراطية، ولا حرّية لأعداء العملية السياسية، وهكذا من إجراءات العزل، إضافةً إلى أن تقييد حرّية التعبير كإجراء يفرضه خطاب الحرب والمعركة ضد العدوّ، وفقاً لتفسيرات خاصة كلّها تصبّ في تقليص حرّية التعبير.
وإذا كانت حرّية التعبير قد انفلتت ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003، فإنها بسبب الفوضى واستشراء ظواهر العنف والإرهاب والفساد، ناهيك عن الصراعات السياسية والمصالح الحزبية والمشاريع الطائفية، عادت إلى التقييد.
وقد شهد حق التعبير إجراءات جديدة من التضييق على الحرّيات، فبدأت محاكم النشر والدعاوى المتبادلة بالقذف والسب والشتم، إضافةً إلى متابعات وملاحقات، وراح ضحية تلك الفوضى وعدم الإيمان بحرّية التعبير نحو 360 صحافياً وكاتباً، وزاد الأمر هيمنة «داعش» على الموصل، ونحو ثلث الأراضي العراقية، الأمر الذي كبّل المكبّل وقيّد المقيّد.
ويبدو أن مشروع القانون على الرغم من احتوائه على مبادىء عامة بشأن حرّية التعبير، لكن نزعة الخوف «الراهنة» والخشية من تطور الأحداث، دفعت المشرّع للتفكير بما هو طارىء ومؤقت، على حساب ما هو استراتيجي وبعيد المدى، وهو ما ينبغي أن تأخذ به صياغة النصوص التشريعية والقانونية، ولذلك تراه يقدّم خطوةً ويؤخر أخرى بخصوص تدخّلات المؤسسات الدينية، والعوائق التي وضعها بشأن التظاهرات وغيرها من المسائل التي تثير اعتراضات كبيرة وتتعارض مع نص المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 5094 - الأربعاء 17 أغسطس 2016م الموافق 14 ذي القعدة 1437هـ