عندما كنت سفيراً لمصر في الصين، زارت الصين وفود عدة من السياسيين وفي مقدمتهم رئيس مصر الأسبق حسني مبارك، ووزراء وسياسيون ودبلوماسيون كثيرون. ولكن أربع شخصيات هم من أطلق عليهم عمالقة لثلاثة أسباب، أولها أن كلاً منهم ترك بصمة واضحة في المجتمع الصيني وفي العلاقات المصرية الصينية، وكانوا موضع ترحيب حقيقي من المسئولين ومن الشعب؛ وثانيها إن كل واحد منهم نقل رسالة خاصة من مصر للصين، وهي رسالة العلم من مصر وحضارتها العريقة وتطلعاتها المستقبلية نحو غد أفضل للصين القوة الصاعدة في القرن الحادي والعشرين؛ والثالث إنني ارتبطت بصورة أو بأخرى، بهذه الشخصيات الأربع في فترة عملي كسفير لمصر في الصين ارتباطاً وثيقاً، فلم أترك أياً منهم منذ وصوله حتى مغادرته، وظللت على صلة بمعظمهم بعد انتهاء الزيارة وإتمام فترة عملي في الصين.
الأول هو أحمد زويل، الذي زار الصين عالماً واحتفت به الصين وعلماؤها احتفاءً كبيراً، وعقد مجموعة ندوات علمية في جامعة بكين وفي أكاديمية العلوم والتكنولوجيا وغيرها، وكنت ملازماً له في كل تحركاته. وشعرت بالفخر لأن أحد أبناء مصر بهذه المكانة العلمية الرفيعة، حيث احتفت به الصين الصاعدة وأحاط به العلماء الصينيون يستفسرون عن اختراعه، وعن جائزة نوبل وعن مشروعاته المستقبلية، وهو يجيب بأريحية ودون غرور أو تكبر، وأنا أستمع ولم أكن أفهم سوى النزر اليسير مما كان يشرحه لهم.
والثاني هو الأستاذ الدكتور بطرس بطرس غالي، الذي زار الصين بدعوة خاصة بعد أن انتهت مدة عمله كأمين عام للأمم المتحدة، وقد اهتممت به بصفته أستاذي في الجامعة وكرئيس سابق لي بوزارة الخارجية وكأمين عام للأمم المتحدة، أكّد صلابة الشخصية المصرية في التمسك بما تراه حقاً عندما أصر على نشر تقرير الأمم المتحدة عن مذبحة قانا رغم اعتراض الولايات المتحدة واللوبي اليهودي على ذلك. وشعرت الصين العظيمة أن هذا الرجل هو رجل مبادئ وليس ممن يبحثون عن وظيفة ويبيعون مبادئهم من أجلها.
سافرت مع بطرس غالي وحرمه السيدة ليا إلى عدة مدن ومحافظات صينية، وكان يحاضر في منتدياتها الفكرية ويتحلق حوله الصينيون والصينيات، وكنت أداعبه قائلاً «ينبغي أن تترشح في الصين لتصبح رئيساً لها»! وفي مداعبة أخرى قلت له: هؤلاء الصينيات يخلقن لك مشكلة عائلية، بإصرارهن على التقاط الصور معه أو الكتابة لهن في الألبوم الخاص بكل منهن، فكان يجعلني أكتب وهو يوقّع.
والثالث هو الدكتور حسين كامل بهاء الدين، وقد زار الصين عدة مرات أثناء وجودي، وكان وزيراً للتعليم ورافقته في اجتماعاته مع المسئولين الصينيين وفي محاضراته التي ألقاها في محافل أكاديمية وعلمية، وتبادل الخبرات مع وزيرة التعليم الصينية والقيادات التعليمية الأخرى.
كان الاهتمام الصيني ببطرس غالي وحسين كامل بهاء الدين بصفتهما مفكرين، ولهذا قامت الصين بترجمة كتابين من كتب بهاء الدين للغة الصينية عن المستقبل والثورة الرقمية والعولمة. كما قامت بترجمة كتابين لبطرس غالي، وهما الرحلة للقدس وكتب مقدمتها نائب رئيس الوزراء الصيني وكان قبلها وزيراً للخارجية وهو تشيان تشي تشين، كما ترجمت الصين كتابه الآخر حول الأمم المتحدة، وشاء الله أن ينشغل الصينيون ولم يرغب أحد من كبار المسئولين أن يكتب المقدمة، فطلب مني الناشر أن أكتب المقدمة لكونه أستاذي وبصفتي سفيراً لمصر في الصين، وعرضت الأمر على الدكتور غالي فوافق على الفور، وكانت مقدمةً أعتز بها وأرسلتها له قبل أن أرسلها لدار النشر فوافق عليها دون أن يغيّر كلمة واحدة، رغم أنني كنت أنتقد بعض مواقفه فيها.
الشخصية الرابعة لم تحضر شخصياً للصين ولكن فكره حضر نيابةً عنه، وهو الشاعر الكبير فاروق جويدة، وقد حضرت للسفارة أستاذة صينية وأبلغتني أنها أعدت رسالة دكتوراه حول شعر فاروق جويدة وطلبت أن أحضر المناقشة بصفتي سفيراً لمصر، فرحّبت بذلك أيّما ترحيب، وأعطى حضوري طابعاً خاصاً للمناقشة، فليس هناك كثير من السفراء يحضرون مناقشات أكاديمية في الجامعات. وشاء الله أن أكتب مقالات نشرت في «الأهرام» عام 1999 وعام 2000 عن هؤلاء الأشخاص الأربعة، ثم جمعتها وأعدت نشرها في كتابي الذي حرّرته بعنوان «الصين بعيون مصرية»، ونشر في سلسلة «إقرأ» بدار المعارف عام 2002، وتضمن الكتاب مقالات لمفكرين مصريين مثل محمد سيد أحمد وأنور عبد الملك ورجب البنا وشوقي جلال وسفراء أعضاء في المجلس المصري للشئون الخارجية ومنهم محمد شاكر وعبد الرؤوف الريدي وسيد شلبي. وتم ترجمة هذا الكتاب للغة الصينية من جامعة شنغهاي للدراسات الأجنبية عام 2006.
لقد كانت تجربتي في الصين تجربة غنية مثل تاريخ مصر والصين وحضارتهما. بالطبع زار الصين في فترة عملي بها كثيرون مثل الرئيس الأسبق مبارك ورئيس تحرير الأهرام إبراهيم نافع، ونخبة من مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام ومن الصحافيين والدبلوماسيين والأكاديميين والوزراء ورجال الأعمال. ولكن العمالقة الأربعة تفوّقوا علي غيرهم من كبار المسئولين أو الوزراء أو رجال الإعلام والأعمال أو الدبلوماسيين. ومن هنا حرصت على تسجيل ملاحظاتي في مقالات منشورة بالأهرام في حينه. ولقد انتقل إلي رحمة الله سبحانه وتعالى ثلاثة من هؤلاء العمالقة، وأدعو الله أن يمد في عمر الرابع ونستمتع وشعب مصر بكتاباته الشعرية وبعموده اليومي ومقاله الأسبوعي الذي يعبّر عن الشجاعة الأدبية والنقد البناء النابع من حب مصر.
ولعلي أشير إلى عنوان مقالي عن بطرس غالي، وهو «مصر والصين وبطرس غالي»، وعنوان مقالي عن زويل وهو «أحمد زويل بين مصر والصين وأمريكا». وطبعاً العنوان له دلالات واضحة ورسالة ينقلها لمصر الحبيبة وشعبها، أن أبناءها هم أكبر ثروة وأكبر قوة ضاربة، فهم القوة الناعمة والذخيرة المتجدّدة، وإن عبقرية الشعب المصري مستمرة، ومصر كما يقال ولادة. ومن هنا أتوجّه للرئيس عبد الفتاح السيسي أن يواصل انفتاحه على شعب مصر وعلمائها ومفكريها وخبرائها، فهم القوة الرادعة لمن تسوّل له نفسه لأن العلم يبني للحاضر والمستقبل، وحقاً قال الشاعر: العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها»، وها نحن نفتخر حتى الآن بحضارة مصر القديمة وعبقرية شعبها. إننا نفخر بالملك ميناء موحّد القطرين، وببناة الأهرام وكاموس واحمس محرراً مصر من الهكسوس والرعامسة، وخاصة رمسيس الثاني القائد العظيم وحور محب وغيرهم، وها هو اخناتون أول داعية للتوحيد. وحقاً القول المأثور، اتخذوا من مصر جنوداً، فهم خير أجناد الأرض، وهذا القول يعني الجنود بالمعني الواسع، فكل مصري يكرّس جهده وفكره وطاقته وعمله لبناء مصر وحضارتها فهو جندي في ميدان معركته العلمية أو القتالية.
نحن جميعاً جنودٌ لمصر بالعلم والإيمان، والبناء والفكر والإرادة. وها هو شعب مصر المعطاء باستمرار، وتحيا مصر حرة مستقلة وآمنة مستقرة. وفي الإنجيل «مبارك شعب مصر»، وفي القرآن «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين». وتحيا مصر.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 5084 - الأحد 07 أغسطس 2016م الموافق 04 ذي القعدة 1437هـ