لم تعرف السياسة العراقية، بعد الاحتلال الأميركي العام 2003 وإلى اليوم، حالة استقالة تُذكر، لأسباب تتعلّق بالاحتجاج على ممارسة ما، أو فشل في توجّه ما، أو تعارض في تدابير أو إجراءات ما، مثلما لم تعرف إقراراً بالإخفاق أو عدم القدرة على تحقيق ما تمَّ الوعد به، أو جرّاء حدث كبير بحاجة إلى سياسة جديدة، وهذه بالتالي تحتاج إلى إدارة جديدة، وهو ما فعله ديفيد كاميرون حين أعلن استقالته في اليوم الثاني لإعلان نتائج استفتاء بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي في (24 يونيو/ حزيران 2016)، واستقالة رئيس وزراء اسكتلندا أليكس سالموند الذي فشل في تحقيق وعده باستقلال اسكتلندا عبر الاستفتاء عن المملكة المتحدة، في (18 سبتمبر/ أيلول 2014).
ولم ينتظر الزعيمان تقديم أي مسوّغات أو تبريرات لفشلهما، بل اعترفا بالهزيمة بروح رياضية، وبادرا إلى الاستقالة من دون أن يتشبثا بموقعيهما، أو يلقيا باللوم والاتهامات على الآخرين، وخصوصاً الزعم بوجود «مؤامرة كبرى»، أو أن «جهات خارجية» تقف وراء ذلك، وهو الأمر كثير الحدوث في البلدان العربية والعالمثالثية، فحتى الخطأ الذي ينبغي على الجهة المسئولة تحمّله، فإنها تلقيه على خصومها وأعدائها، في محاولة للتمترس في المواقع التي تعتّقت فيها رؤوس البعض.
وثقافة الاستقالة لا تقتصر على أحداث كبرى من هذا النوع، بل إنها تشمل أحياناً أحداثاً أدنى مستوى: تفجير مثلاً، أو تزوير، أو فضيحة أخلاقية، أو خروقات أمنية، أو مخالفة لقواعد الدستور، أو غير ذلك، الأمر الذي يضطر فيه المسئول إلى تقديم استقالته احتراماً لنفسه وللجمهور.
وباستثناء استقالة وزير حقوق الإنسان عبد الباسط تركي في (إبريل / نيسان 2004)، احتجاجاً على ممارسات منافية لحقوق الإنسان من جانب القوات الأميركية، وإن مرّت الاستقالة بهدوء وعدم إثارة ضجة، فإن ثقافة الاستقالة لم تصل بعد إلى الطاقم السياسي العراقي الحاكم، الذي بدا أكثر لهاثاً ومحمومية على المواقع والمراكز، حتى قيل على لسان مسئولين، إن لكل موقع ومركز ثمنه الذي يبلغ ملايين عدّة من الدولارات.
هكذا تُباع وتُشترى المواقع والمراكز، في ظل نظام المحاصصة الطائفية - الإثنية الذي جاء به بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي للعراق في مجلس الحكم الانتقالي (العام 2003)، والذي استمرّ حتى الآن مكرّساً أعرافاً في إطار نصوص دستورية تساعد على تعزيز مثل هذا التوجّه المحاصصاتي، بزعم تمثيل المكوّنات، وهو ما ورد ذكره في الدستور ثماني مرّات.
وبعد أخذٍ وردّ، وشدّ وجذب، لمدّة عام أو يزيد قليلاً، قدَّم 6 وزراء استقالتهم لرئيس الوزراء التي قبلها على جناح السرعة، وهم يمثلون التحالف الوطني (الشيعي). وباستثناء محمد الغبّان وزير الداخلية، الذي كان قد أعلن تقديم استقالته قبل ذلك، وحمّل رئيس الوزراء مسئولية الاختراقات في الملف الأمني، وآخرها تفجيرات الكرادة، التي عجّلت، حسبما قال في قرار استقالته، لما تركته من أثر نفسي فيه، فإن الاستقالات الأخرى كانت أقرب إلى الإقالات، وهي ليست مُسبَّبة.
ولأن ثقافة الاستقالة غائبة أو محدودة جدّاً، فإن الاستقالات الأخيرة، بدت وكأنها تحصيل حاصل، لضعف الشعور بالمسئولية أولاً، وعدم تحمّل نتائج الخطأ، أو النقص، أو التقصير والاعتراف به، لأنه غير متداول أو مألوف في التقاليد السياسية، بل هو غير موجود في قاموس السياسة العراقية، ففي السابق لم يكن بإمكان الوزير في ظل نظام شمولي الاستقالة، وأن ما مسموح به فقط هو قبوله «الإقالة»، وعليه الانصياع، وإلاّ فإن النتائج ستكون وخيمة، واليوم فإن الكتلة التي ينتمي إليها الوزير هي التي تقرّر بقاءه أو تغييره، وليس المهم أن يكون كفوءًا أو نزيهاً، أو ناجحاً، بل يكفي أن يكون موالياً، فالولاء هو الأساس وليس الكفاءة.
وفي الغالب الأعم، تُفضّل الكتلة بقاء «وزيرها»؛ لأن وجوده مكسب لها، وفرصة لتوسيع دائرة نفوذها وامتيازاتها، حتى ولو على حساب الوطن، وإلاّ لماذا تعاني الدولة ملاذات فاسدة وتزويراً يزكّم الأنوف، وهجرة للكفاءات؟ أليس أحد الأسباب الأساسية في ذلك هو نظام المحاصصة؟
إذاً ما الذي دفع الوزراء إلى تقديم استقالة شبه جماعية، وهم من كتلة واحدة تقريباً؟ هناك من يقول إن العبادي كان سيقرّر البدء بكتلته لامتصاص النقمة، ولهذا بادروا هم بتقديم الاستقالة، أو باتفاق معهم قبل إقالتهم. وهناك من يزعم أن الأميركان هم من قرروا إعفاء هؤلاء الوزراء من مناصبهم لقربهم من إيران، وقد ازداد تأثير واشنطن في السياسة العراقية بعد احتلال «داعش» للموصل، وخصوصاً بعد إرسالها جنوداً بصفة خبراء، بلغ عددهم أكثر من 4.600، وسينضم إليهم نحو 560 آخرون، كما أعلن وزير الدفاع آشتون كارتر في (11 يوليو /تموز 2016)، وأن قاعدة القيّارة الاستراتيجية القريبة من الموصل وضعت تحت تصرّفهم، ولربما ستكون قاعدة ثابتة، إضافة إلى قواعد أخرى.
وإذا كان القرار بإقالتهم يأتي منسجماً مع رغبة حركة الاحتجاج، فإن هناك وزراء آخرين متهمين بالفساد وضعف الكفاءة، والفشل في إدارة وزاراتهم، لا يزالون مستمرين في مواقعهم، وتأتي الإقالة من جهة أخرى، في إطار نشاط جديد يقوم به نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، الذي ظل يطمح إلى ولاية ثالثة، الأمر الذي شعرت إيران عند غيابه بضعف رأس الدولة الذي كان يمكن الإبقاء عليه في المدار الإيراني.
المالكي يسعى لإقامة تحالف جديد، قد يطيح بالعبادي من داخل حزب الدعوة، ولهذا السبب ذهب إلى السليمانية، وهو الذي اتهم أربيل بالتواطؤ في إسقاط الموصل، فضلاً عن اتّهامه الكرد بمحاولة فرض نفوذهم على كركوك لضمّها إلى كردستان (أي تكريدها)، والاستحواذ على نفطها، ولكن مثل هذا الأمر قد يكون مطروحاً للحلحلة فيما إذا تم الاتفاق على تركيب سياسي جديد.
الإشكالية الآن في ما بعد الاستقالات، أو الإقالات، تتلخّص في: أي المعايير التي سيعتمدها العبادي، هل معيار الاستحقاق الانتخابي؟ أي العودة إلى نظام المحاصصة، أم معيار وزراء التكنوقراط طبقاً للمواصفات الأميركية؟ وهل بإمكانه فعل ذلك، وماذا لو أقدم عليه، فهل سيؤجّج الحملة مجدداً ضده لسحب الثقة منه، وهو ما يلوّح به بعض خصومه، بمن فيهم السيد الصدر، أم أن ثمة تغييرات ستدور في الفلك الأميركي أبعد من ذلك بعد فشل العملية السياسية، في محاولة لتحجيم الدور الإيراني، وخصوصاً بتقليص نفوذ الحشد الشعبي، ولا سيّما بعد تحرير الموصل، أم أن العبادي سيلقى معارضة شديدة من كتلته، وخصوصاً وهو لا يملك عدداً كافياً من المقاعد البرلمانية التي تؤهله للبقاء في الموقع، وقد يكون حصاد كلّ ذلك هو انتخابات العام 2018.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 5083 - السبت 06 أغسطس 2016م الموافق 03 ذي القعدة 1437هـ
استقاله اواقاله نفس الشي ..
من كثر الفساد في العراق في استقالة وفي اقالة