ينقل الزميل محمد عبدالله في مقاله المنشور في «الوسط» بتاريخ 25 يوليو/ تموز الماضي 2016 تحت عنوان «تجهّلوا فتوحّشوا» فقرةً عن الشخصية الإسلامية التونسية المستنيرة عبدالفتاح مورو جاء فيها: «إن المنهج الجاف الذي لم يفتح آفاق الروح والعقل والضمير أمام التلميذ، والذي جعله لا يتلذذ بالدنيا ولا يدلي بدلوه فيها» هو المشكلة، ويضيف: «فالذي لا يقرأ الشعر ولا يسمع الأغنية ولا يشارك في التمثيلية كيف تريده أن يكون قادراً على استيعاب الواقع؟ حتماً سيكون مبتوراً في تكوينه، منقطعاً عن واقعه...».
وفي تقديرنا أن هذا الاستنتاج الذي ذهب إليه مورو، إنما يكتسب أهميته في فهم وسبر أغوار التركيبة السيكولوجية المريضة لشريحة واسعة من الشباب العربي والمُهيئة تماماً لتفخيخ عقولها بالفكر الإرهابي وتجريدها من أية أحاسيس إنسانية سوية، وتحويلها إلى وحوش ضارية في صورة بشر. ويضرب مورو مثلاً على المدرسة الصادقية الثانوية التي فتحت لطلبتها نوادي للشعر والتمثيل والغناء والرياضة، وبفضل ما تمثله هذه المدرسة من نموذج تربوي تعليمي قويم، خرّجت أجيالاً من الكوادر والقادة التونسيين الأسوياء ذوي العقول النيّرة المعطاءة في مختلف مناحي الحياة الحضارية، سواء في وطنها أو حتى في المهجر الأوروبي الذي حطت رحالها فيه.
على أن هذا النموذج التعليمي الزاهر لا يقتصر على التاريخ التونسي، فقد تخللت تاريخنا التعليمي والثقافي العربي الحديث فترات من التنوير الإسلامي في معظم بلادنا العربية، ولو أخذنا مصر على سبيل المثال لا الحصر، فإن الأزهر كان منذ مطلع القرن العشرين في طليعة المؤسسات الدينية العربية التي قدمت رموزاً وأعلاماً دينية نيّرة، كان لها دور مشهود لم يقتصر على النهضة الدينية فحسب؛ بل وشمل النهضتين الثقافية والفكرية بمختلف روافدها. وكان الشيخ مصطفى عبدالرازق واحداً من تلك الكوكبة الأزهرية التي رفعت مشاعل التنوير، والتي كان في عدادها أيضاً الإمام محمد عبده، ومحمد المراغي، ومحمود شلتوت وغيرهم.
كان الشيخ عبدالرازق الذي تولى مشيخة الأزهر العام 1945 استفاد من زيارته وإقامته لمدة ثلاث سنوات في عاصمة التنوير الأولى في العالم «باريس» استفادة جمة، فقد كان لهذه المدينة الأوروبية أثر كبير في تعميق استنارته الفكرية والفقهية إلى أبعد الحدود على رغم نشأته في بيئة دينية خالصة، وإنك لتجد في وصفه باريس ما يعكس تأثره وافتتانه الكبير بها: «جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فيها للأرواح غذاء، وفيها لكل داءٍ في الحياة دواء، فيها كُل ما ينزع إليه آدم من جدٍ ولهو، ونشوةٍ وصحو، ولذةٍ وطرب، وعلمٍ وأدب، وحريةٍ في دائرة انتظامٍ لا تحدها حدود، ولا تُقيدها قيود، باريس عاصمة الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس».
ولو قرأ إرهابيو باريس الداعشيون هذا النص للشيخ عبدالرازق الذي شبّه فيه باريس بـ «الجنة»، وهم الذين حقدوا على هذه المدينة أيما حقد، واعتبروها داراً لأهل الكفر، وحجزوا لأنفسهم وحدهم تذاكر الدخول إليها، فنذروا أنفسهم بتفخيخ أجسادهم وتفجيرها بسكانها وإزالتها من على وجه الأرض نقول: «لو قرأوا هذا النص لانتابتهم في الحال رغبة جنونية عارمة لنبش قبره، وحرق رفاته وعظامه، لا الاكتفاء بحرق مؤلفاته فقط».
وفي باريس ذاتها قدّم شيخنا أطروحة رسالته في الدكتوراه «الإمام الشافعي أكبر المشرعين في الإسلام» بجامعة السوربون، واشترك مع ميشيل برنار في ترجمة كتاب الإمام محمد عبده «العقيدة الإسلامية» إلى الفرنسية. وبالنظر لدوره الخلّاق في المواءمة بين الأصالة والمعاصرة قال عنه الأستاذ اللغوي إبراهيم مدكور بأنه تمكن من تقريب الأزهر إلى السوربون.
لم يكن غريباً والحال كذلك وهو يملك كل تلك الثقافة العصرية والفكر المستنير، أن يرفض اتخاذ الغناء المبتذل والرقص الغرائزي السائد في عصره ذريعةً لتبرير تحريم الفن برمته، وكان قد عُرف بدفاعه عن الغناء الإنساني الراقي بكلماته لأعلام الإبداع الشعري الكُبار لا كلمات الغناء المنحط واللحن الرخيص، ومن هنا أيضاً يمكننا فهم رعايته ودفاعه عن الفنانة الشابة القروية المغمورة «أم كلثوم» القادمة من الأرياف إلى العاصمة القاهرة، والتي سرعان ما صعد نجمها سريعاً فيها، بعد فترة قصيرة من وصولها إليها وإقامتها، حيث واجهت حملةً ضاريةً شعواء على أيدي نجوم الفن الساقط، غناءً ولحناً وكلمات.
ولولا هذه الرعاية الأبوية التي حظيت بها اُم كلثوم لدى شيخنا لعادت مع أبيها الشيخ إبراهيم أدراجهما إلى الريف، ناهيك عن أنهما صمما على ذلك بشدة غير مرة ، ولاسيما أنها تعرضت أيضاً لصدمة عنيفة عادةً ما يتعرض لها القرويون لدى قدومهم إلى القاهرة والمدن، حيث يكونون فريسة سهلة للنصب والاحتيال، كما يعبر عن ذلك الناقد الأدبي الكبير رجاء النقاش، فقد سُرق منها تحويشة العمر من ريع حفلات أغانيها في الأرياف بصحبة أبيها. وكان الشيخ عبدالرازق فتح لهما بيته في «عابدين» بعد ما عرف بأنهما من عائلة مُعدمة وعلم بصدمتها، فلم يكن عبدالرازق بفكره المستنير يجد أي تعارض بين الدين والفن الرفيع، هو الذي قال عنه تلميذه رئيس قسم الفلسفة بجامعة القاهرة سابقاً الأستاذ عثمان أمين بأنه كان يتمتع بروح جمالية في نظرته إلى الحياة والعالم، وأنه في بعض رسائله الأولى غير المنشورة «وصف باريس وصفاً تحدث فيه عن الرسم، والموسيقى، والرقص، والحدائق الغنّاء، التي تمتزج فيها الابتسامات والدموع».
وبعد، فهل يُنتظر من أي بيئة تعليمية وثقافية واجتماعية عربية موبوءة مُغلقة تنعدم فيها كل المقومات الجمالية المشروعة التي أحلها الله، ودعا إليها الشيخ الأزهري مصطفى عبدالرازق ودافع عنها في زمانه أن تُخرّج إلينا سوى العينات الشابة المريضة، والتي يعجز العطّار عن إصلاحها بعدما أفسدها الدهر الظلامي حيناً طويلاً؟!
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5078 - الإثنين 01 أغسطس 2016م الموافق 27 شوال 1437هـ
مقال اكثر من رائع استاذي العزيز