أنتظر. عيني مُعلّقة على الباب المُوارب، وأنفاسي متهدّجة. أبحلق بشُدوه في خطوط أصابعي المُرتعشة التي كانت تعدّها أمّي معي... إلى أن شوّشتني دمعة مخاتلة.
نظرت إلى وجهي. شعرتُ بأنني ألتقي به للمرة الأولى، وبأنني أحتاج عمرًا آخر، لأُبحِر فيه وأعرفه... غير هذا الذي سينقضي.. عاجلًا.
"درويش يقول بأن الموت لا يوجع الموتى، بل الأحياء... لن يدوم وجعك طويلًا... ما الذي يدعوك للتشبث بهذه الحياة؟".
التفتُّ إليه... سبعينيّ، أمرد، هزيل. سعل؛ ثم مسح فمه فشابت بياض منديله حمرة قانية.
أسندت رأسي للجدار وكأنني لم أسمعه.
هناك ما يستحق الحياة!
هناك نور التي ستعود من الغربة بعد عامين بالدكتوراه! غرست وجهي بين كفيّ؛ شعرتُ بأنني لن أمتلك الوقت الكافي لتحقيق وعدي بزيارتها قبل أن تعود. خذلتها.
هناك - إلى جانبها - إخوتها السبعة، وآخرهم سعد الذي لم يبلغ الرابعة. كانت زوجتي رافضة تمامًا لفكرة الإنجاب بعد الخمسين، ولكنني كنتُ مُصِرًا على تكثير نسلي إلى جوار نخلي؛ ابتغيتهم بأنانية زينة لدنياي.. الدنيّة.
"سيخبرك بأن حالتك نادرة، كما يُخبر كلّ مرضاه... هه؛ معتوه هذا الطبيب كسائر قطيع الأطباء. في كل موعدٍ لي أرى بائسًا مثلك. لا تخف! قد يتأخر الموت في خطفك. مات ولدي بعد إصابتي بالمرض بعام في حادث مروريّ وهو في كامل صحته، وأنا لم أمت بعد!"
التفتُّ إليه وعيني تستعر جمرًا، فابتسم، تنحنح.. ثم دندن وهو ينظر إلى الجدار...
"يا حبيبي كل شيء بقضاء.. ما بأيدينا خلقنا تعساء..ربم-...."
لم أتحمله أكثر، انتصبت واقفًا وصرخت بأعلى صوتي: "لو سمحت، وفّر نصائحك لنفسك! لا أريد أن أسمع موعظة ولا أغنية! أنا أنتظر الموت وأنت تغنّي؟ هل أنت متأكد من أنك مصاب بالسرطان لا الخرف؟ أعرف كل ما قلته، فهلّا سكتت؟"
لم يتغيّر وجهه، لم يغضب، ولم يجادلني. ظلّت خطوط وجهه صامدة كما هي. زمّ شفتيه، ولا شيء غير ذلك.
سار كلّ شيء كما كان بعد أن أخبرني الطبيب بأنني مصاب بسرطان الأمعاء. لم تُغيّر الريح اتجاه دورانها العبثيّ، ولم تسقط أيّ نخلة من نخلي الذي كنتُ أظنّه يشعر بي، ويعيش من دمي. كل شيء استأنف سباحته في فلكه. حتى أبنائي.. بكوا، ولازموني في الأسبوع الأول؛ وبعدها عادت ضحكاتهم وهتافات تشجيعهم لبرشلونة تخترق جدران غرفتي.
غرقتُ كثيرًا فيّ؛ واكتشفتُ – مُتأخرًا - أن حياتي مضت تجاه اللاشيء، وستنتهي قريبًا... بلا شيء. مثيرة للسخرية هي الطريقة التي تجرّنا بها الحياة خلفها، ثم تتركنا أصفارًا؛ حين تختار تصفيتنا. يغدو كل ثمين لهثنا وراءه عدمًا... فجأة!
وضعتُ كفّي على بطني، مستودع قطعة اللحم المجنونة التي تمرّدت عليّ في جوفي، وتنوي انتشالي من كل ما حولي. على الكرسيّ الذي جواري، تخيّلتني كهذا العجوز.. أثرثر بتجربتي مع السرطان. أهذي بينما ورمي يكبر ويسخر منّي، ويسفك دمي.. فيّ.
تخلّى الباب عن صمته المُطبق على أنحاء المكان، وخرجت منه الممرضة.
"لم يكن عليك أن تقلق! فحوصاتك تؤكد أن الكتلة ليست ورمًا سرطانيًّا! هذا يحدث كثيرًا! نحن نخبرك بأسوأ الاحتمالات وحسب!"
لُجِم لساني، دارت الصور بعشوائية في رأسي، ولا أدري لم التفتتُ للعجوز! كان كما هو، لم يتحرك أبدًا.. وكأنه لم يسمع ما قالته!
احتضنته وبكيت بين يديه. لم يتحرك، لم يتكلم. عينه شاخصة... كما كانت قبل قليل.
أبعدته عنّي، سقط. احتشدوا حوله، صراخ، هرولة، دقائق، وجهه يُغطّى بلحاف أبيض.
رددت؛ وصوت الستّ يخالط صوتي... وصوته، دون شعور:
"لا تقل شئنا.. فإن الحظ شاء.. فإن الله شاء"
الاسلوب مشوق ، والفكرة واضحة والنهاية المفاجئة جميلة ، الاحلى ان الشخصية بدت كاملة ، حياتها وما تعنيه اعطتها واقعية .
نصارع كل يوم مع هؤلاء المتشائمين ، المحافظة على التفاؤل اصعب شيء في مجتمعنا ، احسنت
نهاية فجائية ... جعلت القصة رائعة
أعجتني لغتك و اختيارك للالفاظ التي تدعم جو التأرجح بين اليأس و الامل. لكن أجد أن الحبكه مستهلكه نوعا ما، فلحظة ترديد كلمات الامل في النهاية لا تضيف أي عنصر ... كذلك مسار القصة لا يحوي على أي عنصر تشويق كي يجذب القارئ و يعطيه أي نوع من الشعور سوى اليأس المدقع.