في العام 1999 صاغ رائد الأعمال البريطاني كيفن أشتون مصطلح «إنترنت الأشياء» Internet of Things - IoT، و«الأشياء» يقصد بها الأجهزة التي يمكن زرعها في أماكن أو أجسام ثابتة أو متحرِّكة، أو في البشر، كزرع جهاز لمراقبة نشاط قلب الإنسان، أو زرع أجهزة في أجسام الحيوانات، وثُمَّ التقاط موجات التردُّدات لتحديد أماكن تواجدهم، أو التقاط حركة المحَّار في المياه الساحليَّة، أو أجهزة الاستشعار في السيَّارات والمنازل، أو أيَّة أجهزة ميدانيَّة تساعد رجال الإطفاء في عمليَّات البحث والإنقاذ.
هذه «الأشياء» ستصبح جزءاً لا يتجزأ من الأجهزة والبرمجيَّات والبيانات والخدمات، وستساعد على جمع البيانات من جميع المصادر المُستهدفة. وبحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، فإنَّ 10 في المئة من نظَّارات القراءة ستكون مُتَّصلة بالإنترنت مع حلول العام 2023، وإنَّ إنترنت الأشياء سيمثّل 50 في المئة من حجم استخدام الإنترنت في العام 2024، وإنَّ أوَّل هاتف محمول ومزروع في جسم الإنسان سيكون متاحاً بصورة تجاريَّة في العام 2025.
على أنَّنا لا نحتاج إلى أنْ ننتظر كثيراً؛ لأنّ أجهزة الاستشعار بدأت فعلاً في التأثير على مختلف المجالات، بما في ذلك الاستشارات الإداريَّة. فقد ذكر الرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات الأميركيَّة «هيومانايز» Humanyze بن وابر Ben Waber في مقال نشره في (24 فبراير/ شباط 2016) أنَّ شركته وضعت أجهزة استشعار (يمكن ارتداؤها من قِبلِ الناس)، وهذه الأجهزة التقطت البيانات الرقميَّة من الأهداف المُحدَّدة، ومن ثمَّ توصل الاستشاريون إلى تحليلات ورؤى قدَّموها لمجلس إدارة تلك الشركة.
المثال الذي ذكره «وابر» كان عن التقاط حركة العاملين في إحدى شركات «السِّياحة والسفر»، وبعد فترة من المراقبة، جُمِعت البيانات وتمَّ تحليلها، ووجدت الشركة الاستشاريَّة أنَّ كيفيَّة تناول طعام الغداء تُؤثِّر مباشرة في مستوى إنتاجيَّة العاملين. فبعد تحليل التَّفاعلات بين العاملين، ورسم خرائط وسياقات العمل، وجد الاستشاريون أنَّ زيادة حجم الطاولة الموجودة في كافتيريا الشركة قد عزَّز الأداء والإنتاجيَّة بنسبة 10 في المئة، وأنَّ آثار حجم الطاولة تمتدُّ إلى ما بعد فترة الأكل.
لقد وجد الاستشاريون أنَّ الذين يأكلون مع بعضهم بعضاً تزداد إنتاجيَّتهم أكثر، ولذلك اقترحوا تكبير طاولة الأكل في الكافتيريا لتشجيع العاملين على التحدُّث بأريحيَّة مع بعضهم بعضاً أثناء تواجدهم في الكافتيريا.
وبحسب «وابر»، فإنَّ النَّاس يقضون معظم ساعات أيَّامهم في بيئة العمل، وإذا كان شخص مَّا محظوظاً، فإنَّ تلك الساعات من المفترض أنْ تُنشّطه وتعطيه القوة والاندفاع نحو الأداء. لكن بالنسبة إلى الكثيرين، فإنَّ بيئة العمل تمارس تقييداً للعاملين الذين يشعرون أنَّ عليهم الكدح المستمرَّ من أجل إرضاء مرؤوسيهم. ولذلك استخدم الاستشاريُّون بيانات مُستمدَّة من أجهزة الاستشعار المركَّبة على العاملين، ودرسوا الظُّروف التي تجعل الناس فعَّالة بصورة أفضل في العمل، وكيف يمكن تحسين مكان العمل لتعزيز الأداء، والرضا الوظيفي، وغيرها من العوامل المنعشة للأداء.
في العادة، فإنَّ التكاليف الماليَّة تضغط على أصحاب العمل لتقليل التّسهيلات المتوافرة للعاملين، لكنَّ النتائج المستقاة من الاستشارات المعتمدة على «إنترنت الأشياء» أوضحت أنَّه، وبدلاً من مجرد النظر إلى خفض التكاليف، فإنَّ توسيع بعض المساحات والتَّسهيلات في أماكن العمل يخلق قيمة مضافة، ويزيد من الإنتاجيَّة، وذلك عبر تحسين طريقة التَّعاون بين العاملين. وبعد دراسة أنماط التفاعل التي تتعلَّق بالأداء والرضا الوظيفي، وجد الاستشاريُّون أنَّ إفساح المجال للعاملين في هذه الشركة، التي تستخدم الإنترنت لتقديم خدمات السَّفر، للتَّفاعل الحرِّ أثناء الأكل، وزيادة حجم مناضد الطعام في الكافتيريا أدَّى إلى تحسُّنٍ كبيرٍ في الأداء (أكثر من 10 في المئة)، إذا ما قيست مع الشركات الأخرى. ووجد الاستشاريُّون أنَّ المُبرمجين الأكثر إنتاجيّة هم الذين يتناولون الغداء في مجموعات كبيرة (حوالي 12 شخصاً)، وكان العاملون الأقلُّ إنتاجيَّةً هم أولئك الذين يأكلون على مناضد أصغر (حوالي أربعة أشخاص).
لقد وجد الاستشاريُّون أنَّ الذين يتناولون الطعام على مناضد أكبر، لديهم قدرات أفضل في بناء شبكات اتصال تعاونية أكبر داخل المؤسَّسة، وأظهرت الأبحاث أنَّ قوة الشبكات الاجتماعيَّة تؤثّر في الأداء. وقد قامت الشركة بتكبير مناضد الأكل، وهذا أدَّى إلى زيادة الإنتاجيَّة.
وقد فسَّر الاستشاريون ذلك بأنَّ روح الفريق الواحد تزداد، و«التَّماسك» بين العاملين يزداد، ويزداد تبادل المعلومات والأفكار بأريحيَّة، ومن دون ضغوط قاسية. كما أنَّ كميَّة الوقت التي يقضيها الفرد مع زملائه (في التحدُّث) يزيد التَّماسك والتَّواصل بين الفرق الأخرى بشكل ملحوظ.
وبالطبع، فإنَّ إنترنت الأشياء يمكن استخدامه بصورة أكبر في تخطيط المكاتب وفي تصميم سياقات العمل، وفي زيادة التَّفاعل بما يخدم تحسين الأداء وتحقيق التنافسيَّة والرضا الوظيفي.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 5074 - الخميس 28 يوليو 2016م الموافق 23 شوال 1437هـ