سيجد العالم العربي صعوبة كبيرة في الخروج من مأزقه الراهن بلا التوصل لقناعة تامة وجادة من قبل نخبه الراهنة والمستقبلية، بضرورة الرأي الآخر مهما كان مخالفا وفجا. فمن دون الرأي المعارض المسنود بقوة القانون، ستكون المجتمعات العربية غير قادرة على الخروج من محنتها، بل ستكون أكثر تفككا وتدميرا لذاتها.
لقد استوردنا المحن أساسا من كون مجتمعاتنا تسير على غير هدى؛ بسبب انشغال قادتها بغلق منافذ التعبير أمام منافسيهم. وتعج دولنا العربية بالقوانين التي تسجن وتقصي؛ بسبب التعبير عن الرأي أو المساس بصانعي السياسة الرئيسيين. وما فشل الانقلاب في تركيا في اليومين الماضيين، إلا تأكيد بأنه يوجد في الإقليم الإسلامي نماذج للرأي والرأي الآخر، وأن المدنية قادرة على الانتصار على النزعة العسكرية القمعية التي تدمر الحضارة بفضل وأدها كل ما يرتبط بالرأي والرأي الآخر والحقوق والانتخابات وبناء المؤسسات.
الأمة العربية في هذه اللحظة التاريخية غير قادرة، في معظم حالاتها، على إدارة حكومة بشكل فعال كما يفعل العالم، ولا هي قادرة على التصدي لوضع فاسد ولتزايد في حجم الهوة بين الفقراء والأغنياء في ظل فشل الدولة في القيام بواجباتها. لقد تورط العرب في علاقات منشأها الفساد، وذلك واضح في الإدارة والسياسة والاقتصاد، فأصل الفساد غياب القدرة على النقد والمساءلة.
لقد تعمقت الحالة العربية بعلاقات أساسها تثبيت منهج عاجز عن نقد الحكومة مهما كانت انحرافاتها، وهذا يخلق بدوره حالة خوف ثم كبت ثم غضب وعنف وثورة. يقال دائما الكبت أصل الانحلال، لكن الاستمرار في ممارسة القمع عاما وراء العام يؤدي للثورات. ويقول لنا التاريخ إن كل حكومة تبقى في الحكم لفترة طويلة تتجاوز العقد تراكم الأخطاء.
على حكومة كهذه أن تعزز مصادر شرعيتها بالخضوع لتداول سلمي للسلطة ولانتخابات حقيقية تتضمن تنافسا حزبيا. هذا يعني أن العالم العربي الذي يمنع النقد والتعبير لا يستطيع أن يصحح مسارا مهما كان خاطئا، وهو بطبيعته ينتج العنف أو الخنوع أو الثورة. في الحالتين العالم العربي سيبقى في حالة غير طبيعية، إلى أن يتعامل مع تنوع الآراء التي يحميها شعب يشعر بحريته وضرورة أن يحمي نفسه من جنون حب السلطة وفسادها.
إن أفضل نموذج لحالة الاستبداد العربي تلك التي مثلها الرئيس السابق صدام حسين. فهو أخذ العراق نحو نهضة في البداية، وسيطر من خلال ذلك على عقول العرب، لكنه بحكم سيطرته المطلقة ومنع النقد وتعزيز الخوف في جمهوريته، أصبح وحيدا في أعلى الهرم، من معه يكيل له المديح، ومن هو ضده يعلن تأييده أيضا خوفا من بطش، لهذا وقع صدام في فخ من صناعته، أساسه عدم القدرة على تحمل وجود رأي آخر في كل شأن من شئون الدولة والوطن.
لم يكن صدام حسين غريبا عن الإقليم الذي نشأ به، فنحن نتعلم اليوم أن العالم العربي الرسمي بالتحديد يحمل درجات متباينة من الكراهية لحرية التعبير وتنوع الآراء أكانت عبر الصحف أو المجلات أو مواقع التعبير. يكفي أن نعرف أن العالم العربي الرسمي لا يثيره التخلف والفقر أو البطالة وقلة العدالة وانتشار الظلم والفساد واحتلال فلسطين والطائفية بقدر ما يثيره انتشار وسائط النقد والتعبير الجديدة خارج سلطة الدولة.
على الدول العربية التي تزداد احتقانا أن تعيد النظر بقوانين التشدد ضد الرأي الآخر مهما كان وقحا، فهذا المختلف هو ضمان لأمنها؛ لأنه يسمح لها بالتغيير والتصحيح وأحيانا التراجع عن سياساتها في الوقت المناسب. في الحالة العربية هناك مبالغة كبرى في جعل الحكومة والقادة فوق النقد، وذلك على رغم مدى تأثير قراراتهم على حياة الناس. نعود ثانية لتفسير الفشل العربي في الإدارة السياسية والاقتصادية أيضا، بصفته فشلا في إدارة الحريات والمساحات المفتوحة.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 5067 - الخميس 21 يوليو 2016م الموافق 16 شوال 1437هـ