أقصد بازدواجية المعايير، تلك النصائح والتدابير التي تفرضها هذه المؤسسة النقدية العالمية على الدول التي تحتاج إلى إقراض ودعم في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية وشمال أوروبا (الدول الاشتراكية السابقة)، بل وبعض الدول الغربية كاليونان مثلاً، وبين نصائحها وتدابيرها للولايات المتحدة الأميركية.
فمثلاً يطالب الصندوق حكومة البحرين ـ بحسب تقريرهم الأخير في 30 مارس/ آذار 2016 ـ بتنفيذ المزيد من الإجراءات وعدم الاكتفاء فقط برفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية والطاقة والكهرباء والماء، وزيادة الضرائب على التبغ والمشروبات الروحية، حيث يقترح الصندوق اتخاذ تدابير (لاحتواء الإنفاق الجاري بما في ذلك «فاتورة الأجور») أي تجميد الأجور، وخفض العلاوات السنوية سواء للموظفين أو المتقاعدين، وتحرير سوق العمل بحيث يتمكن أصحاب الأعمال استقدام العمالة الأجنبية المهاجرة على حساب نسب البحرنة، وبالنسبة لموضوع الضرائب يطالب الصندوق تطبيق ضريبة «القيمة المضافة» دون الضغط بضرورة الإصلاح السياسي أولاً، «حيث لا ضريبة بدون تمثيل» وحيث من الأهمية وجود وضوح كامل لآلية استحصال الضريبة، وتوجيهها لدعم الخدمات الأساسية للمجتمع، ودون وجود دراسات ميدانية لآثار هذه الضريبة وغيرها على دخول أبناء البلد.
إن كافة شروط الصندوق لمعظم دول العالم، يطالبون بفرض جميع أنواع الضرائب التي محصلتها إلقاء المزيد من الأعباء على الطبقات الاجتماعية الفقيرة ومحدودة الدخل والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، منها بالطبع ضريبة القيمة المضافة والتي لن تتضرر منها جميع المنشآت من المنبع حتى وصول السلعة للمستهلك النهائي، فجميع مراحل توزيع السلعة من المصنع أو المستورد إلى منشآت البيع بالجملة إلى المفرد تدفع نسبة الضريبة للدولة، (5 في المئة) وتسترجعها من المرحلة التالية، من توزيع السلعة إلى أن تصل إلى المستهلك المواطن، الذي يدفع هذه النسبة على السلع التي يشتريها، دون أن يحصل عليها من أي جهة أخرى، ولكن الصندوق لا يقترح أبداً تطبيق ضريبة الدخل على الأثرياء وأصحاب الملايين والمليارديرات.
أما عالمياً فجميع الدول قد فرضت عليها شروط قاسية لخفض الإنفاق الحكومي، وتسريح أكبر قدر ممكن من الموظفين الحكوميين، وتنفيذ الخصخصة في القطاع الصحي والتعليمي، وضرورة خفض الأجور، وزيادة المعدلات الضريبية المستوفاة من الأفراد العاملين، وخفض برامج الرعاية الاجتماعية، مع خفض الضرائب الجمركية والضرائب المستوفاة من الشركات الأجنبية، ومعظم هذه السياسات كان الصندوق يسميها (العلاج بالصدمة)!
حدث ذلك في تشيلي فترة حكم بينوشيه بعد الانقلاب العسكري عام 1973، وكذلك في المكسيك باقتصادها النفطي والصناعي الجيد، الذي تم تدميره بهذه السياسات في الفترة من 1979 ـ 1982، وفي البرازيل في نفس الفترة، والأرجنتين، ونيجيريا عام 1986، وفنزويلا عام 1989، وعموماً يمكن القول إن (36) بلداً تعرضت خلال الفترة الواقعة بين 1976 ـ1992، إلى سلسلة من الاضطرابات والثورات، وذلك احتجاجاً على سياسات التقشف (خفض الإنفاق الحكومي وإعادة هيكلة الاقتصاد... الخ) واستجابة لشروط الصندوق.
وبانهيار المعسكر الاشتراكي تدخل الصندوق وبذكاء شديد، بعد تولي غورباتشوف بأطروحاته الليبرالية والذي أفضى في المحصلة النهائية إلى بلوغ ديون الاتحاد السوفياتي قبل انهياره إلى (54) مليار دولار عام 1989، وفي العام 1992 كان الصندوق قد حقق مراده، ففي ظل قيادة بوريس يلتسن دخلت روسيا رسمياً في مرحلة إخضاع الاقتصاد الوطني لإجراءات (العلاج بالصدمة).
والمجال هنا لا يتسع لسرد باقي الدول التي أصابتها ويلات تنفيذها سياسات الصندوق، سواء باختيارها أو إجبارها على ذلك.
ولكن ماذا عن الولايات المتحدة الأميركية؟
دون الدخول في تفاصيل العلاقة والتداخل في المصالح بين صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة الأميركية منذ تأسيسه في مؤتمر بريتون وودز في عام 1944 ولغاية الآن، ودعمه الواضح الدولار الأميركي والهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي، فكشف هذه التفاصيل يحتاج إلى حلقات كثيرة، ولكن لنتأمل نصائح الصندوق وهو يقدم تقريره لحكومة الولايات المتحدة الأميركية هذا العام، حيث نصح الصندوق أميركا (برفع الحد الأدنى لمستوى الأجور لمساعدة الفقراء)! في حين يطالب باقي الدول بتجميد الأجور؛ بل وخفضها، وحذر الصندوق من أن (ارتفاع الفقر واللامساواة في أميركا يؤديان إلى أضرار بإمكانات البلاد الاقتصادية) في حين لا يهتم عملياً بهذا الجانب الاجتماعي/ الاقتصادي في باقي دول العالم، ويفرض تدابير اقتصادية ضريبية، ورفع الدعم، وتقليص الرعاية الاجتماعية، والتي تؤدي إلى زيادة الفقر واللامساواة، وإن كان نظرياً بعد توافق واشنطن يرفع شعار الحكم الرشيد والمساواة والشفافية... إلخ.
وأكدت مديرة الصندوق كريستين لاغارد أن «الاقتصاد الأميركي يواجه مشاكل اقتصادية طويلة الأمد، من ضمنها كبر سن قوة العمل، وضعف نمو الانتاجية وتصاعد اللامساواة في الدخل، ولذلك ينبغي تعديل نظام ضريبة الشركات، وتقليل معدلات الضرائب. ويتطلب إعفاءات ضريبية للأميركيين ذوي الدخل المنخفض لمكافحة الفجوة المطردة في اللامساواة في الدخل ومساعدة الفقراء)، فليتأمل أصحاب القرار الاقتصادي في بلادنا هذه النصائح من هذا الصندوق لولي أمره، ومدى تعارضها مع «النصائح المفروضة» على دولنا والتي تطالب بالمزيد من تلك الضرائب (وليست الإعفاءات) التي تزيد من اللامساواة في الدخل في مجتمعنا. وحيث أن الصندوق وفي غالبية دول العالم يطالب المصارف المركزية برفع معدلات الفائدة، وفي بعض هذه الدول رفعت المعدلات بشكل كبير لمنع التضخم من الصعود (والسبب أساساً إجراءاته في إضعاف القوة الشرائية وارتفاع الأسعار... إلخ) نراه ينصح الحكومة الأميركية بأن على (الاحتياطي الفيدرالي الأميركي التدخل «بروية»؛ أي بهدوء وحذر لرفع معدلات الفائدة والسماح لمعدل التضخم بأن لا يتخطى الهدف السنوي له وهو نسبة 2 في المئة)!
يشير آرنست فولف، أستاذ الفلسفة في جامعة بريتوريا بجنوب إفريقيا في كتابه «صندوق النقد الدولي، قوة عظمى في الساحة العالمية»، «إن المرء يتعجب من زعم الصندوق ان من بين مهامه وأهدافه مساعدة الدول النامية في افريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية على صياغة مناهج تفضي إلى تنمية مستدامة ورخاء متزايد، إن الصندوق يقدم هذه المساعدات منذ 40 عاماً، وفي بعض البلدان للمرة الثانية والثالثة، ولكن بلا أي زيادة في النمو أو الرخاء في الدول التي لجأت إليه، باعتباره الملاذ الأخير للتزويد بالسيولة، إن العكس هو الصحيح، فمديونية هذه الدول تزداد تفاقماً من يوم إلى آخر، والفقر تتسع دائرته بلا انقطاع».
إن على دولنا أن تبحث عن مخارج داخلية وإقليمية خليجية وعربية للبحث عن حلول لتقليل ديونها، بدلاً من أن تقع في «فخ المديونية» الذي يهدف إليه الصندوق كاستراتيجية للانقضاض على مجمل الاقتصاد، وهو «فخ» ستضطر دولنا أن تنصبه أيضاً على مواطنيها كأحد الحلول التي سيفرضها الصندوق لتخفيف إفرازات شروطه وسياساته على أبناء البلاد الذين سيزدادون فقراً وحاجة للمال، بعد أن تنتهي مدخراتهم البسيطة التي وفروها من سنوات عملهم، أي بعد أن يذوب «الشحم» من أجسادهم، فتفتح لهم خزائن المصارف للمزيد من الاقتراض الشخصي الذي يؤدي إلى وقوع المواطن بالمقابل في «فخ المديونية» وفي المصير المجهول لقادم حياته! ولهذا «الفخ» مقال آخر.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 5066 - الأربعاء 20 يوليو 2016م الموافق 15 شوال 1437هـ
ما كان يجب الاقتراض من هذا البنك و دول الخليج كانت تقدم للبحرين الدعم المالي بدون فائدة تذكر قياسا لهذا البنك
كيف المواطن يدفع الضرائب وليس لة صوت لايصح ابدا
المديونية
عندما يقرر معالجة المديونية بلد ما ، يجب أن تفرض القيمة المضافة ف السلع الاستهلاكية والرأسمالية ع الكبار قبل الصغار وع الأغنياء قبل الفقراء وذلك لحماية الحالة الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين.
لو كان هناك اصلاح حقيقي واجراءات كبت الفساد المالي والاداري في دولنا لما احتجنا الى اموال صندوق النقد الدولي وبالتالي الدخول في نفقها المظلم