قبل أيام كنتُ عازماً على زيارة محافظة الأحساء على أمل اكتشاف معالم منطقة تربطنا بها وشائج اجتماعية وتاريخية ممتدة في عمق الزمن، وما نعرفه عن هذه الواحة الخضراء التي دخل «تمرها» معجم الأمثال العربية القديمة حتى قيل: «كبائع التمر إلى هَجَر»، في إشارةٍ إلى وفرة محاصيلها من التمور وما اشتهرت به من جودة الأصناف.
لا تتمتع الأحساء فقط بجمال طبيعتها الخلابة فحسب، ولا كان نخيلها الذي يذكّر بنخيل «أرض السواد» هو الذي حركّ رغبتي لزيارتها؛ فثراء الحركة الثقافية والأدبية وما تزخر به من طاقات واعدة وكتّاب ومثقفين وأدباء وشعراء دور في تعميق هذا الإغراء، الذي وقعت في أَسره منذ فترة ليست بالقصيرة. وعلى ذلك فقد كانت هذه الرغبة القديمة تلحّ عليّ بين حينٍ وآخر، وكان في النيّة – عند تحقق هذه الرغبة – زيارة «علاّمة الأحساء» المؤرخ الأديب الحاج جواد بن حسين الرمضان، الشخصيّة التي طالما طرق اسمها سمعي مقروناً بالإجلال والهيبة بين جمع من الأصدقاء المهجوسين دوماً بقضايا البحث في تاريخ المنطقة.
لم تتمّ سفرتي مع الأسف لظروف قاهرة، غير أن الأقدار كانت سخيّة معي فرتبت لي لحسن الحظ قبل أيام، لقاءً بالحاج الرمضان في البحرين في زيارةٍ له لأرحامه في قرية «سلماباد»، صحبة أستاذنا سالم النويدري، وقضينا معه أكثر من ساعتين مَرّت سريعاً كحلم جميل، وكانت أحاديث شيقة وفوائد لا تعثر عليها إلا في صدور الكبار.
تَحَدّثَ الرجلُ عن فترة إقامته في البحرين، واستعرض بعض الذكريات التي راح يتذكرها، وشريط الذكريات يطوف أمام عينيه بوضوح تام وكأن أحداثه جرت قبل أسابيع. الأشخاص الذين عايشهم وعرفهم، الأحياء التي سكن فيها، الكتب التي قرأها، الأندية التي واكب نشاطها الثقافي والاجتماعي، المدارس الليلية التي درس فيها، والأطفال الذين كبروا الآن وتسلّموا مواقع مهمة في الحياة العامة.
انتصبت في ذاكرة الرمضان أسوار المدن، واحتشدت جموع غفيرة من الناس والشخصيات التي عرفها وخالطها في حياته، وغصّت بالكتب العتيقة التي قرأها وبنوادر المخطوطات التي وقف عليها في المكتبة الظاهرية في دمشق، ودهاليز الأرشيف العثماني في اسطنبول، وما ضمّته الرواشن المغبرة في الأحساء. لقد تَفَرّس هذا الرجل وجه التاريخ، وجنى من «فوائد الأسفار» ما راكم به خبرةً، جعلت منه من أهل الاختصاص الثقات المعدودين.
البحرين كانت محطته الأولى بعد أن غادر الأحساء صبياً مع الأسرة الكبيرة إلى جزيرة «المليون نخلة» عام 1950م (1369هـ)، واشتغل الرمضان فور إقامته في «حياكة البشوت» إلى جانب سعيه لنيل العلم في «مدرسة العامر» بالمنامة، حيث حفظ القرآن الكريم على يد الملا عبدالله بن صالح العامر، وكان رجلاً كفيفاً، ورجل آخر هو الملا موسى بن سليمان. وبعدها بعامٍ قرّر الرمضان الالتحاق بمدرسة ليلية أهلية، تُعنى بمحو الأمية، ويديرها في ذلك الحين عددٌ من مثقفي البحرين، غير أنه لم يمكث طويلاً، إذ سرعان ما غادرها سعياً لتحصيل عملي أفضل. كما حدثني عن «جمعية الصادق» التي كان ينشط فيها صادق البحارنة بعد خلافٍ مع «نادي العروبة»، أسفر عن خروج جماعةٍ منه، وكانت هذه الجمعية تُقدّم دروساً ليليةً برسمٍ شهري لا يتجاوز 500 فلس.
وفي هذه الفترة ظَلَّ الرمضان يحرصُ على متابعة الإصدارات الجديدة وشغف باقتناء الكتب، ونتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت بشكل عام سمة ذلك الزمان، سعى الرمضان إلى البحث عن مخارج لتدبّر أمر اقتناء الكتب من مدخراته البسيطة، فوجد ضالته في «سوق المقاصيص». وقد استطاع من خلال هذا السوق أن يجمع مجموعةً ضخمةً من الكتب القديمة والحديثة والدوريات الثقافية.
وقد امتدت تجربة الإقامة مع العائلة في البحرين نحو عشر سنوات، هاجرت بعدها العائلة إلى العراق التي لم تمكث فيها طويلاً، إذ سرعان ما تركها متوجهاً هذه المرة إلى سورية في العام 1958م (1378هـ) في رحلةٍ امتدت هي الأخرى عشر سنين.
طوال ما يزيد على الثلاثة عقود، احتفظ الرمضان بوفائه لحرفته في حياكة «البشوت» حتى وهن بصره فأمسك عنها عام 1980م (1400هـ)، وفي دمشق التحق خلال إقامته بمصنع «نبيه حمدالله» معتمداً على أمهر صناعي البشوت من الأحسائيين المهاجرين.
السنوات التي تلت عودة الرمضان إلى مسقط رأسه الأحساء، شكّلت قمة عطائه الكتابي في حقل التاريخ، الذي سَخَّرَ له منذ ذلك الحين كل وقته وطاقته، عندما أيقظ فيه الفضول البحث عن نسب العائلة في العام 1968م (1388هـ)، ومنذ ذلك الحين ومشوار البحث التاريخي والتنقيب عن الأنساب في المنطقة شغله الشاغل، وقد أثمر هذا الشغف الذي تملكه، جمعه ثروة من الوثائق والمخطوطات النفيسة، قيل أنها تبلغ الألف مخطوطة، أقدمها يعود إلى القرن العاشر الهجري (16م).
وإلى جانب جمعه هذا الكم الهائل من المخطوطات والوثائق؛ فقد وضع الرمضان أيضاً عدداً من الكتب أهمها: «مطلع البدرين في تراجم علماء وأدباء الأحساء والقطيف والبحرين»، ويقع في اثني عشر جزءاً، طبع منها جزءان فقط، بعدما تكفّل بطباعتهما أحد رجال الأعمال الكويتيين، وهو الحاج حسين القطان، ولازالت هناك محاولات لطباعة بقية الأجزاء.
وله أيضاً «معجم أعلام الأحساء في العلم والأدب»، و«معجم العائلات والأسر الأحسائية»، و«قلائد الجمان في تراجم علماء وأدباء آل رمضان»، و«إسناد المغانم في تراجم أعلام آل أبي المكارم», وكشكول «نزهة الناظر وسلوة الخاطر» يقع في أربعة أجزء، و«ومعجم المؤلفين الأحسائيين»، و«نفائس الأثر في تاريخ هجر»، إضافةً إلى «ديوان الأحسائيات»، وكل هذه الكتب لم تتهيأ السبل بعد لطباعتها.
ولقد ظل الحاج الرمضان موئلاً للباحثين ومرشداً موجهاً للمهتمين بتاريخ المنطقة، وقد استفاد من الثروة المخطوطة التي يملكها عددٌ كبيرٌ من الدارسين والأكاديميين في أبحاثهم ومؤلفاتهم، ولعل أبرزهم صاحب كتاب «أعلام هَجَر» السيد هاشم الشخص، الذي يتهيأ مؤلفه لطباعة جزءه الخامس.
وهو إلى جانب ذلك، متواضع غاية التواضع، وعندما سألته أن يقدّم لي نصيحة تساعدني على تلمس طريق البحث التاريخي الذي بدأته، أجاب بثغر باسم ولهجة تفيض بالمحبة: «أنت قارئ جيّد.. وما عندنا عندك»، ثم راح بعفوية آسرة يسألني بعض الأسئلة عن بعض الكتب والشخصيات في البحرين، ويدوّن أسماءها في دفتر صغير يحمله بين يديه!
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5064 - الإثنين 18 يوليو 2016م الموافق 13 شوال 1437هـ
أحمد البقشي .
الاستاذ و الباحث الكريم =وسام السبع =أشكر لطفك و وفاءك بالكتابة عن استاذنا شيخ المؤرخين الرمضان سلمه الله و التي وقت في نفوسنا موقع الرضا
، تنويه بسيط حول الفرق بين الحياكة و التي هي صنع نسيج البشت و الخياطة و هي تطريزه بالزري و هما مهنتان مختلفتان و شيخنا عمل في الثانية و الاول يسمى( حايك) و الثاني في الحسا يسمى( مخيط) تمييزا له عن خياط الثياب الذي يسمى ( خياطا )
نتطلع دائما للجميل و المفيد من كتاباتك الجميلة و الرائقة .
موضوع شيق يسبر اغوار كاتبي التراث والتاريخ موفق كاتبنا العزيز
زكي العامر
مدرسة العامر ومؤسسها المرحوم العم الحاج ملا عبد الله العامر في الهفوف في منطقة الفوارس وليست في البحرين ويقول عنها المؤرخ
الحاج جواد الرمضان انها أول مدرسة شبه نظامية في الأحساء
اصيل
اصيل بتراثه وتربته وعمله فلكم جزيل الشكرا استاذنا العزيز على هذه الاضاءات الجميله
حفظه الله و حفظ العائلة الكريمه اين ما كانت
بارك الله جهودكم أستاذ وسام .