العصر الصناعي (الذي استمرَّ نحو 200 عام حتى نهاية الخمسينات من القرن العشرين) قام على «المصنع»، وقام على إدارة للمجتمع اتَّجهت نحو المركزيَّة، ووصلت قمَّتها في نهج «البيروقراطية» التي زادت عن حدها في كثير من الأحيان، وتحوَّلت إلى وسيلة لخنق القُدرات وتعطيل المهمَّات، بدلاً من تيسيرها. أمَّا العصر المعرفي، الذي نعيش فيه حاليّاً، فيعتمد على «المعلومات»، وهذه المعلومات أصبحت الآن «بيانات ضخمة» Big Data متَّصلة ببعضها بعضاً عبر شبكة «الإنترنت».
ولكنَّ المشكلة في البيئة الرقميّة تكمن في كيفيَّة الوثوق بالمعلومات التي تتوافر على الإنترنت؟ وكيف يُمكن تبادل الوثائق التي يمكن أنْ تُعتبر مماثلة لما يُتوافر ورقيّاً؟، فالوثيقة الورقيَّة يمكن التَّعرُّفُ على مصدرها، ويمكن استخدامها في المُعاملات الرسميَّة، وهو أمر تتغلب فيه على الوثيقة الرقميَّة.
ربما هذا الكلام صحيح - بصورة عامة - ما قبل اكتشاف وسيلة موثوقة لتبادل المعلومات والبيانات، وذلك عبر ما يسمَّى بـ Blockchain... وهذه الوسيلة الرقميَّة من شأنها أنْ تُغيّر طريقة العمل والإدارة عبر استخدام الوسائل الرقميّة.
تكنولوجيا Blockchain تقوم على التَّواصل الرقمي (عبر الإنترنت) بين سلسلة chain من الكُتل أو الصوامع المعلوماتيَّة blocks بصورة لا مركزيَّة، لكنَّها موثوقة تقنيّاً، بين جميع المستخدمين. هذه التكنولوجيا ابتكرها في العام 2008 شخص اتخذ اسماً وهميّاً له، ساتوشي ناكاموتو Satoshi Nakamoto (هناك عدد من الأقوال عن الاسم الحقيقي والادعاءات عن هوية الشخص آخرها في نهاية 2015 من شخص اسمه كريغ ستيفن رايت Craig Steven Wright تحدث في مقابلات، وقال انه الشخص المذكور)، وهذا الشخص أطلق على العملة التي ابتكرها اسم «بيتكوين» Bitcoin مستخدماً وسيلة Blockchain التي جاء بها لتوثيق تداول العملة الرقمية بصورة موثوقة.
وبحسب كتاب صدر في 2016 تحت عنوان: Blockchain Revolution، من تأليف Don Tapscott وابنه Alex Tapscott، فإنَّ نظام صرف عملة «بيتكوين» الذي طرحه مبتكر العملة، استخدم بُنيةً تحتيّةً تقوم على Blockchain تضمُّ تفاصيل المُعاملات على شكل سلسلة مرتبطة زمنيّاً.
في البداية كان المراقبون يستهزئون بطريقة تداول العملة، لكنَّ الموضوع تحوَّل من الهزل إلى الجدِّ، بحيث يَتوقَّع المنتدى الاقتصادي العالمي أنَّه وفي غضون عشر سنوات ستمثّل عملة «بيتكوين» 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأنَّ هذه العملة وقيمتُها ستكون مخزونة على قاعدة المعلومات اللامركزيَّة والموثوقة Blockchain.
قاعدة البيانات الموثوقة تعمل مثل الصوامع المترابطة مع بعضها بعضاً عبر سلسلة من آلاف (أو ملايين أو مليارات أو تريليونات) الكتل المعلوماتيَّة، وهذا التَّرابِط المُتسلسل يسمح لأي فرد الدخول على قواعد المعلومات للتحقُّق من أنَّ الصفقة أو المعاملة موجودة فيها بشكل مُعيَّن في وقت مُعيَّن، وأنَّها ليست نسخة من شيء موجود في مكان آخر.
عندما طُرحتْ الفكرة في 2008 كانت هناك الكثير من المخاطر، لكنَّ هذه المخاطر أصبحت واضحة بشكل تدريجي، وأصبحت هناك الآن استخدامات أخرى غير الخدمات الماليَّة، فالحكومة السويديَّة أعلنت (مطلع يوليو/ تموز 2016) أنَّها تدرس تسجيل ملكيَّة الأراضي والعقارات عبر استخدام Blockchain، كما أنَّ الحكومة الأميركيَّة تدرس استخدام هذه التقنيَّة في الخدمات الصحيَّة للمواطنين. كما أنَّ الشركات الكبرى مثل «سامسونج» و«آي بي إم» وغيرهما بدأوا يستثمرون بقوَّة في هذه التقنيَّة لطرح الحلول لمختلف المجالات الحياتيَّة.
الأمرُ المهمُّ الذي سيتوافر أيضاً سيكون في التحقُّق من الهويَّة الشخصيَّة (عند الحاجة) لمن يمرّر المعاملات على الإنترنت، مع حفظ الخُصوصيَّة، كما أنَّها ستساهم في حفظ حقوق الملكيَّة الفكريَّة للمؤلفين والفنانين والمبتكرين الذين يعانون حاليّاً من سرقة مجهوداتهم.
تكنولوجيا Blockchain من شأنها أنْ تطرح البديل العملي للإدارة البيروقراطيّة التي جاء بها العصر الصناعي، لكنَّها ستكون غير مركزيَّة، مفتوحة المصدر، لا تعترف بالحواجز، وهي غير هرميَّة، وإنَّما شبكيَّة تتوزَّع فيها الصلاحيَّات والسلطات. بلا شك ستكون قواعد المعلومات المتسلسلة عرضة للمتسللين والمقرصنين، لكنَّ التطوُّرات الأخيرة أعطت درجة عالية وعمليَّة من مستوى بروتوكلات الثِّقة (من دون وسطاء) لتسوية المعاملات، وكل ذلك يُفسحُ المجال لخلق ثورة جديدة في أساليب الإدارة غير المركزية، ترافق موجة البيانات الضخمة Big Data التي تحرّك الذكاء الاصطناعي، وكذلك إنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثيَّة الأبعاد، وهذه جميعها بدأت بتدشين جيل جديد من الإنترنت ستبرز معالمه قريباً.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 5060 - الخميس 14 يوليو 2016م الموافق 09 شوال 1437هـ