من بين الأمور التي باتت راسخة في الدراسات الثقافية عموماً وفي مجال علم الاجتماع الثقافي خصوصاً تلك العلاقة القائمة بين الفن/ الفنون من طرف، والمجتمع والظروف التاريخية التي يمر بها المجتمع من جهة أخرى، وهذه تختلف بطبيعة الحال من مجتمع لآخر، وبالتالي تأثر الفنون بهذه الظروف سلباً أو إيجاباً، والعكس صحيح، أي تأثر المجتمع بالفنون على اختلافها تقدماً أو تأخراً، ومن بين هذه الفنون الحركات الشعرية. فكثير منها ذو تأثير متبادل بالمجتمع الذي تنشأ فيه تلك الحركات، هذا إذا لم يكن ظهورها ضرورة مجتمعية، أي لحاجة مجتمعية. بمعنى له وظيفة محددة.
والعلاقة بين الفن والمجتمع ليست علاقة آلية، بل علاقة جدلية ومعقدة، وتسير في اتجاهين. بمعنى أن المجتمع هو الذي يلعب دوراً في ازدهار فن من الفنون أو في تدهوره أو حتى في بروزه أو اندثاره . فالفن لا يعيش إلا ضمن نسق أو سياق اجتماعي مهما بدت العلاقة ضعيفة بهذا السياق الاجتماعي.
وفي المقابل فإن الفن/ الفنون تساهم في تكريس أو تغيير أو تعديل على أقل تقدير نوع من العلاقات الاجتماعية بطريقة غير مباشرة، باعتبار أن الممارسة الفنية غير الممارسة السياسية، حيث إن هذه الأخيرة فعلها مباشر في الشأن الاجتماعي، بينما الممارسة الفنية فعلها غير مباشر في المجتمع. بمعنى آخر أنه يمكننا أن نتعرف على خصائص مجتمع من المجتمعات من خلال فنونه بعضها أو كلها. لذلك ليس غريباً أن نتعرف على قيم مجتمع معين من خلال الشعر مثلاً أو من خلال الأدب الشعبي أو من خلال الرسم، أو من خلال أساطيره وملاحمه أو من خلال المسرح أو الرواية أو ما إلى ذلك.
فلو أخذنا الشعر العربي بمختلف عصوره نموذجاً، لما نحن بصدده بخصوص العلاقة بين الفن والمجتمع، لتبين لنا أن هذا الشعر لم يكن واحداً بل متعدداً، وذلك حسب المجتمعات والبيئات والمراحل التاريخية التي مر بها المجتمع العربي، بحيث يمكن القول إن الشعر العربي بصيغة المفرد هو في حقيقته مجموعة من الأشعار بصيغة الجمع، مرتبطة بمجتمعات وظروف تاريخية وعلاقات اجتماعية متباينة ومتناقضة ومتعاقبة، وذلك حسب الزمان والمكان والأجيال وتباين المناطق والدول.
ففي هذا السياق لدينا الشعر الجاهلي - وما هو بجاهلي - ولكن هكذا استقرت التسمية والأصح أنه بسماته وخصائصه يمثل شعر طفولة المجتمع العربي، وبدء ملامح وميول توحيدية والدعوة إلى الخروج من التشرذم الاجتماعي القبلي إلى مرحلة تكوين نواة مجتمع عربي موحد، لأن المجتمع في علاقاته الاجتماعية برغم التشرذم القبلي الحاصل آنذاك كانت لديه ميول في هذا الاتجاه، وهو ما يتجلى في شعر كبار شعراء الجاهلية المتمثل في الدعوة إلى السلم ونبذ الحرب. ولكنه في الوقت نفسه يمثل مظاهر الحياة الاجتماعية السلبية والإيجابية الموجودة في المجتمع الجاهلي. فمن أراد أن يعرف عن المجتمع الجاهلي فعليه بالشعر على رغم بعد المسافة الزمنية. إنه ديوان العرب بحق. أي تاريخهم بكل ما يحتويه، وهذا بذاته دليل كافٍ لما بين الشعر والمجتمع من علاقة لازمة.
أما الشعر الإسلامي فقد مثل بخطه العام واقع تأكيد على الوحدة والأخوة، وما إلغاء الشرك إلا في أحد معانيه الاجتماعية هو إلغاء الشقاق والتأكيد على الوحدة المجتمعية والحد من التشظي القبلي وتأييد الدعوة الإسلامية التي تحارب الشرك وتدعو للتوحيد بما لهما من معانٍ دينية/ ميتافيزيقية من جهة، ومعانٍ اجتماعية تعني الاعتصام بحبل الوحدة والتعاون والابتعاد عن العصبية القبلية من ناحية أخرى، وما على الشعر إلا أن ينحو هذا المنحى وأن تكون تطلعاته بهذا الاتجاه، هذا مع العلم أن الشعر في مرحلة الإسلام الأولى - العهد النبوي والراشدي - قد احتل المرتبة الثانية بالقياس إلى النثر وخاصة بالقياس إلى النثر القرآني المعجز، هذا فضلاً عن موقف الإسلام من الشعر والشعراء الذين يتبعهم الغاوون. وهكذا نجد تحولاً في الشعر وجمهور الشعر ورأي المجتمع في الشعر وفي جمهور الشعراء وفي مواقف الشعراء وفي كمية الشعر لا بل في وظيفة الشعر... الخ. الأمر الذي يؤكد أن أحوال الشعر مرتبطة بالتغيرات الاجتماعية التي صاحبت الخروج من مجتمع الجاهلية - وهي تسمية إسلامية - إلى مجتمع الإسلام بما فيه من جديد على الصعيد الديني والسياسي، وضرورة مراعاة الشعر لهذا الجديد أو تبنيه والدفاع عنه، كما يتجلى ذلك في تحولات عدد من الشعراء المخضرمين وظهور شعراء جدد يساندون الدعوة ويتحدثون باسمها.
ولكن الشعر من الناحية الاجتماعية لم يتوقف عند المرحلة النبوية والراشدية، بل تغير كثيراً في المرحلة اللاحقة، أعني المرحلة الأموية ليجاري المتغيرات الاجتماعية، وليعبر عنها خير تعبير بكل ما فيها من جوانب اجتماعية وسياسية وثقافية وأخلاقية وعصبية عربية إزاء العصبيات الأخرى، إلى ما هنالك من قيم مثلت الروح البدوية الأموية.
فالشعر الأموي هو كذلك ليس فقط لأنه قيل في فترة الحكم الأموي؛ بل لأنه انعكاس للبنية المجتمعية للعرب، وما جرى عليها من تغيرات سلبية وإيجابية بالقياس لبنية المجتمع العربي في العهد النبوي والراشدي البسيط، ويكفي الإشارة في هذا السياق إلى العلاقة بين الشعر والمجتمع المتمثلة في تلك المساجلات الشعرية (النقائض) بين الثالوث الأموي الفرزدق وجرير والأخطل وغيرهم بطبيعة الحال. حيث تبوأ الشعر المكانة الأولى في هذا العهد كما الشعراء، وذلك بخلاف تأخره في المرحلة السابقة. لقد عاد الشعر في عهد الأمويين بقوة وليصبح مجدداً في الواجهة المجتمعية والثقافية، ولسان حال القوى الاجتماعية المتصارعة. وأيضاً يمكن الإشارة إلى ظاهرة الشعر العذري، وهي ظاهرة سوسيولوجية بامتياز تعود إلى العصر الأموي، ومن معالمه.
وفي ضوء ذلك نستطيع قراءة المجتمع الأموي قراءة سوسيولوجية من خلال شعره.
أيضاً لابد من الإشارة إلى أن الشعر العربي ربما حافظ على مظهره الشكلي المتمثل في الوزن والإيقاع - العروض والقافية - لكن الشعر مع الانتقال من العهد الجاهلي إلى العهد النبوي فالراشدي، ثم الأموي قد اختلف كثيراً من حيث المحتوى ومن حيث التعابير، ومن حيث الصور ومن حيث القيم الاجتماعية والحضارية، هذا فضلاً عن المحتوى السياسي/ الأيديولوجي، مما يؤكد على تلك العلاقة التي لا تنفك بين الفن وهو هنا الشعر والمجتمع الذي ينمو ويتطور في سياقه متأثراً ومؤثراً في الوقت نفسه.
وإذْ سقط الشعر الأموي بسقوط الدولة الأموية، فإن الشعر العربي لم يسقط؛ بل أصبحنا في هذه الحال أمام شعر عربي جديد تماماً؛ ولكن بنكهة وخصائص الحكام الجدد العباسيين، حيث أصبح المجتمع عباسيّاً بعد أن كان أمويّاً، ولابد من أن يتأثر الشعر بما جرى من انقلاب شامل سياسي واجتماعي وعرقي وثقافي وذوقي وأخلاقي وقيمي وأيديولوجي.
فأوان العباسيين هو غير أوان الأمويين لأسباب كثيرة، ربما أكثرها حضوراً هو تغير بنية المجتمع العباسي من حيث المكونات والأقوام والأيديولوجيا والسياسات، عن بنية المجتمع الأموي السابق، حيث يتطلب ذلك بنية شعرية تتناسب وهذا التغير الاجتماعي الهائل في بنية الدولة والمجتمع.
ومن هنا فإن الشعر العباسي هو أيضاً انعكاس أمين لما يدور في هذا المجتمع، كما أن الشعر نفسه قد حظي باهتمام كبير من قبل الخلفاء، لأنه الأداة الأيديولوجية المناسبة للتعبير عن تطلعات الدولة والمجتمع العباسيين.
ويمكن القول إن المرحلة العباسية بحكم تطورها والتقدم الهائل الذي أصاب المجتمع في مختلف مناحي الحياة وازدهار الجوانب المدينية والحضارية، وتلاقح الثقافة العربية مع كل الثقافات القائمة حينذاك - من هندية وفارسية ويونانية وسريانية - قد كان له التأثير البارز في مسيرة الشعر والشعراء، وما حدث في الشعر العربي خلال الحقبة العباسية لم يكن له من سابقة، فقد كان التطور كميّاً ونوعيّاً، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى العديد من الشعراء الكبار بين مؤيدين ومعارضين. لكن نكتفي على سبيل الإشارة بشعراء من وزن المتنبي وبشار بن برد وأبي نواس والبحتري وابن الرومي وأبي تمام ومهيار الديلمي والمعري والشريف الرضي، وعمر ابن الفرض، وعباس بن الأحنف ودعبل الخزاعي - والقائمة طويلة - لندلل على الكم الهائل من الشعر والشعراء، مما يعني مدى حاجة المجتمع إلى هذا الكم، أي وجود جمهور كبير يتعاطى الشعر من جهة، ووجود شعراء بأعداد كبيرة مثلوا نخبة مجتمعية، يحسب لها حساب لدى الدولة العباسية، وتلبي احتياجات المجتمع بكل مكوناته الاجتماعية والأيديولوجية والاثنية، ووجود خلفاء وأمراء ووجهاء يرعون الشعر والشعراء ويساهمون في نشر دواوينهم، ويجزلون لهم العطاء، ويخاصمون شعراء ويقربون آخرين.
ومع امتداد الفترة العباسية لأكثر من خمسة قرون، فإن هذه الفترة التاريخية كانت مليئة بالأحداث والمتغيرات والانقلابات الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية. هذا فضلاً عن التمازج بين أقوام واثنيات مختلفة، واكتساب قيم ومعايير من الأمم والشعوب الأخرى، وهي أمور مجتمعة كان لها تأثيرها البالغ في مسيرة الشعر العربي خلال الخلافة العباسية. فعلى سبيل المثال نجد أن بعض فنون الشعر قد تطورت مثل الحماسة والفخر والوصف والمديح والغزل والمجون، وأخرى جديدة مبتكرة من قبيل الزهد والحكمة أو الشعر الفلسفي والصوفي.
إلا أنه بعد مرور قرنين من الزمن بدت علامات الضعف تدب في جسم الخلافة العباسية، وهذا ما تجلى في ظهور الدويلات من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، بحيث أصبح الشعر والشعراء مرتبطين بهذا التفكك، ويصبح لكل دولة ولكل أمير شعره وشعراؤه، من قبيل شعراء الدولة البويهية وشعراء الدولة الحمدانية أو الفاطمية والأموية ثم أمراء الطوائف في الأندلس، وهكذا.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 5059 - الأربعاء 13 يوليو 2016م الموافق 08 شوال 1437هـ