في مثل هذا الشهر يوليو/ تموز تمر ذكرى ثورتي تحرر وطني وقعتا في خمسينات القرن الماضي، الأولى ثورة 23 يوليو/ تموز المصرية في العام 1952 بقيادة جمال عبدالناصر، والثانية ثورة 14 يوليو/ تموز العراقية في العام 1958 بقيادة عبدالكريم قاسم. ومع أن من المُسلم به بأن كلتا الثورتين وكلا الزعيمين أخفقا في دمقرطة النظام الذي جاءت به كلتا الثورتين، إلا أنه من الظلم التاريخي تصنيفهما كمجرد انقلابين عسكريين ما دام النظام السابق المدحور في كلا البلدين واقعاً تحت تأثير الاحتلال والاستعمار البريطاني، وما دام كلاهما جاء في ظل ظروف موضوعية، ميزت لخصائص مرحلة تاريخية من النضال الوطني العربي والعالمي.
ومن اللافت أن الزعيمين الوطنيين لكلتا الثورتين، ناصر وقاسم، ورغم الطابع الوطني الشمولي لحكم كل منهما، فإنهما مقارنة بقادة هذا الزمان المنتخبين أكثر طهارةً في الذمة، بل وتقلصت في ظل حكم كل منهما ظاهرة الفساد، كما لم يُسجل في ظل كليهما استغلال الحاكم الشمولي لنفوذه السياسي للإثراء الشخصي، سواء في ظل نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر على مدى 18 عاماً من توليه الحكم ( 1952 - 1970)، أم في ظل نظام الزعيم الوطني العراقي الراحل المغدور عبدالكريم قاسم (1958-1963).
وقد يختلف الكثيرون في تقييم النهج السياسي الذي اتبعه كلا الرجلين في الحكم أو الفكر الذي يتبناه، لكن مالا يختلف عليه اثنان من المحللين والباحثين المتجردين من الهوى السياسي إنهما تركا السلطة راحلين عن دنيانا وذمتهما المالية الشخصية لاتشوبهما شائبة من حيث الطهارة.
ومع أن الشواهد والقصص التي تُحكى على ذمة عبدالناصر أكثر مما تحصى كما رُويت خلال وبعد حكمه، فحسبنا أن نشير هنا إلى فقرة اخبارية بثتها «قناة الجديد» اللبنانية قبل 5 سنوات، لما تتمتع به هذه الفقرة من صدقية لاعتمادها لغة الأرقام والتوثيق الموضوعية اللبنانية، كما من اللافت أن هذه الفقرة الأخبارية حُمّلت على اليوتيوب منذ 5 سنوات، ومع ذلك مازال يجري تداولها في عالمنا العربي على أوسع نطاق من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، للاستشهاد بها كلما فاحت رائحة من روائح الفساد العربي في وسائل الإعلام العربية. ومما جاء في هذه الفقرة عن ذمة ناصر: «مرتبه الشهري 500 جنيه، إضافة إلى بدل التمثيل 625 جنيهاً، وصافي الراتب الذي يتقاضاه 395 جنيهاً...». وفيما يتعلق بممتلكاته الشخصية فكانت كالتالي: سيارة أوستين يمتلكها منذ ما قبل ثورة يوليو 1952، 8 أزواج من الأحذية، 3 ماكينات للتصوير، آلة عرض سينما، 10 بدلات ومجموعة من الكرفتات، أما ما تركه من مال يوم رحيله فقد كان 84 جنيهاً، ولم يترك لأسرته منزلاً أو ملكاً خاصاً ممنوحاً من الدولة أو منهوباً من المال العام».
أما فيما يتعلق بكشف الذمة المالية لعبدالكريم قاسم غداة إعدامه في دار الإذاعة إثر الإنقلاب العسكري الدموي البعثي في نهار 14 رمضان المبارك من العام الميلادي 1963، فمن أفضل الشهادات الموضوعية على نزاهته، جاءت على لسان اثنين من ألد أعدائه، الأول هو طالب شبيب عضو القيادة القومية، ووزير خارجية الحكومة التي جاء بها الانقلاب، والثاني هو هاني الفكيكي عضو القيادة القطرية لحزب البعث في العام 1963، عضو المجلس الذي شكله الانقلابيون باسم «مجلس قيادة الثورة»، وفي هذا الصدد يقول شبيب: «... إن الجمهور العراقي العريض ظل منذ رحيل قاسم ولحد اللحظة الراهنة حذرٌ من تأييد كل الحكومات التالية، وظلت ذاكرة عبدالكريم قاسم مثيرة للاهتمام أكثر من غيرها، وطيبة في أذهان كثيرين، بل إن قاسم ظل يضيق على كل الحكام اللاحقين بسبب إدمان الشعب على مقارنتهم به». ويضيف «وجدنا أن ركنه في وزارة الدفاع يتكون من غرفة نوم واحدة، وحمام جيد بمستوى أوروبي، وغرفة جلوس صغيرة جداً... وكانت عينه شبعانة، فلم يطمع وهو حاكم العراق الوحيد ببستان أو قطعة أرض، في حين سعى كل حكام العراق الذين سبقوه والذين خلفوه للكسب والاستيلاء وسرقة المال العام...». (انظر شبيب، «عراق 8 شباط «، وانظر أيضاً الفكيكي، «أوكار الهزيمة») .
وبحسب مصادر مستقلة كثيرة، لا يتسع المقام هنا لتعدادها جميعها، فإن مرتب قاسم الشهري 440 ديناراً عراقياً يرسل منها 100 دينار إلى شقيقه حامد لنفقات غذائه اليومي الذي يأتي به إليه في وزارة الدفاع بـ«سفرطاس غذائه» المفضل لديه، والذي تعود عليه منذ أيام عمله في الجيش، و100 الى شقيقته أم طارق، و40 دينارا يُسدد لمأكولاته من مطعم الوزارة، أما المئتا دينار المتبقية فتودع في خزانة مكتبه، لينفق شهرياً جزءاً منها على الفقراء خلال جولاته التفقدية للأحياء الشعبية، ولم يجد الانقلابيون في هذه الخزانة إلا بضعة دراهم، وحينما فتشوا أوراق مكتبه وجدوا قوائم بأسماء الفقراء المحتاجين، إما للقمة العيش، وإما للسكن، وإما للكساء، وإما للعمل، وفق ما جاء في أحد المصدرين المشار اليهما آنفاً.
وهكذا فإذا كان من الصعوبة بمكان القول بأن النظامين الناصري المصري والقاسمي العراقي كانا ديمقراطيين، فمن التعسف أيضاً مساواتهما بالأنظمة الشمولية الفاشية، ولننظر إلى حجم الفساد المهول غير المسبوق تاريخياً في عهدي الرئيسين السادات ومبارك واللذين رفعا شعارات الإصلاح والديمقراطية بتسويق أميركي - غربي مقارنة بعهد عبدالناصر، ولنقارن حجم الفساد الكارثي الرهيب وغير المسبوق تاريخياً في ضخامته واتساع ظاهرته في عراق مابعد سقوط نظام الدكتاتور صدام بعراق ما بعده في بحر أقل من 10 سنوات على أيدي حكومات عراقية منتخبة، بل وبمقارنة هذين العهدين الحالي والسابق، بعهد قاسم الأنصع بياضاً. بيد أن جريمة الفساد التي تُرتكب في ظل الحكومات المتتالية بعد اسقاط نظام صدام حسين والتي جاءت كما يُفترض للسلطة انتخابياً عبر صناديق الاقتراع تحت شعار تخليص الشعب من إرث فساد ودكتاتورية النظام السابق، هي أفدح من الأنظمة السابقة مجتمعة، كونها تتم والسواد الأعظم من الشعب المغبون يرزح في ظل أوضاع مأساوية، وأزمات كبرى متعددة الأوجه سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ومذابح جماعية على أيدي «داعش»، وسائر الجماعات الإرهابية على نحو مزرٍ، لم يشهد له العراق مثيلاً طوال تاريخه الحديث، وللأسف يحدث كل ذلك في وقت والشعب العراقي هو في أمس الحاجة لكل درهم لمواجهة تبعات كل تلك الكوارث على الأصعدة الأمنية والعمرانية والمعيشية.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5057 - الإثنين 11 يوليو 2016م الموافق 06 شوال 1437هـ
أحسنت أستاذ وأقول لبعض المعلقين الكاتب تحكمه مساحة الحرية
اخي العزيز لماذا تخطيت فترة صدام التي فاحت بعد قبره
26 قصر في منطقة واحدة فقط والاراضي والمزارع لا حدودلها .
سياراتة وطائراته هو وابناءه المرصعة بالذهب .
الحفلات منها حفلات الميلاد التي يعملها له ولابناءه التي تكلف الخزينة ملايين الملايين التي يؤتى بموادها من اوربا .
تكاليف الحزب واتباعة وما يبذر من عطاءات للتبشير بالحزب وتلميع صورته في العالم وشراء الذمم .
هذا فيض من فيض.
وافتح اليوتيوب ترى العجب العجاب الموثقة لفترة حكم صدام من اذلال الشعب والاعدامات والمقابر الجماعية التي لايمكن ازالتها من عقل الشعب العراقي .
هذا بالنسبة للنزاهة ونظافة الضمير وحفظ المال العام ومع ذلك لم يسلما الزعيمين ولكن الذمة وحدها لا تكفي فالتاريخ لا يغفر الزلات السياسية ومايترتب عليها من تبعات تدفع ثمنها الشعوب .
سلم قلمك استاذي فعلاً الزعيمين الكبيرين عبد الناصر و عبد الكريم قاسم من اشرف من اعتلى عرش السلطة في بلاد العرب .. رحمهما الله
هل عندك أدلة على فساد الحكومات التالية لصدام ؟ أم مجرد كلام نردده مع الآخرين ممن لا تروق لهم الديمقراطية والانتخابات؟ أنا لم أجد في مقالك دليلاً واحد
أنا بصراحة لم أجد المصداقية في مقالك لأنك ببساطة جبنت أن تذكر حقائق كتيرة مرتبطة بالموضوع
كلنا يعلم حجم التآمر والإستنزاف الذي يتعرض له العراق على وجه الخصوص من عدة جهات داخلية وخارجية
ام اليوم فحدث بلا حرج