العدد 5052 - الأربعاء 06 يوليو 2016م الموافق 01 شوال 1437هـ

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

محمد عباس علي comments [at] alwasatnews.com

عضو سابق في مجلس بلدي المحرق

قبل عدة سنوات، جمعتني الصدفة بأحد الأفراد الذي بدا عمره قد قارب نهاية العقد الخامس، وذلك بسبب حادث سيارة لأحد أقاربي. وبينما كنا ننتظر مجيء رجل المرور، تجاذبنا أطراف الحديث، وإذا به يذكر بأنه استطاع أن يخدع أحد الأفراد ببيعه سيارةً كان بها خلل كبير في محركها بسبب حادث بليغ، حيث تمكّن من عمل بعض التعديلات على السيارة بمساعدة ميكانيكي سيارات ماهر، لإخفاء ذلك الخلل الكبير لفترةٍ ما، وعليه لم يُكتشف ذلك الخلل الكبير في محرك السيارة.

ولكن ما هي إلا بضعة أيام حتى توقّفت السيارة، واكتشف ذلك الخلل البليغ من قبل الشخص الذي اشتراها. وعليه توجّه للبائع، (أي محدّثي)، ولكنه وبكل فخر أجابه بأن «الطيور طارت بأرزاقها، وقد استلمت نقودك، وانتهى الأمر».

هذا وقد اندهشت من كلامه، حيث كان في غاية السرور بأنه تمكّن من الضحك على ذلك الشخص، وباعه السيارة على أنها سليمة، ولم يكشف عيبها الجسيم إﻻ بعد أن قبض مبلغها. وكرّرت عليه أسئلة مختلفة لأتأكد من سلامة عقله، واتضح لي وبشكل ﻻ يقبل الشك، بأنه كان واعياً لما عمل، ولكنه يعد ذلك العمل غير الأخلاقي شطارةً، مكّنته من اصطياد زبون أوقعه حظه العاثر في سبيل هذا الشخص الذي يفتقر إلى الضمير الحي، والذي يعد الخداع والكذب للوصول إلى مأربه شطارةً وذكاء.

للأسف، الواقع الذي نعيشه يدلّل بأن مثل هذا الشخص في مجتمعنا الصغير كثر، وهم في مواقع كثيرة وكبيرة. مثل هؤﻻء هم أشخاص مرضى نفسيون، وربما لكثرة كذبهم ونفاقهم، أصبحوا ﻻ يؤمنون بقيم الخير والنبل والصفاء، بل إنهم من فرط ما هم منغمسون فيه من رذائل، يجدون المتعة في القيام بكل الأعمال غير السوية، وعليه فإنهم يتباهون ويفتخرون بعملها.

لا شك أن العبادات المختلفة من صلاة وصيام وحج... إلى آخره، هي بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، ولكن إذا لم يكن لهذه العبادات صدى في تعاملنا وأخلاقنا مع الآخرين، فإن كل هذه الطاعات تصبح طقوساً جوفاء، بلا روح وﻻ رونق. وهذا ينطبق على جميع مناحي حياتنا، سواء على مستوى الإخلاص والتفاني في العمل، أو على مستوى التعامل مع الأهل والأصدقاء، وبقية من نتعامل معهم من أفراد. وللأسف فإن القيم التي تعد من أبجديات ديننا الإسلامي الحنيف، مثل الوفاء والصدق والإخلاص والتفاني، أحياناً ﻻ تجدها في كثير من المتدينين، الذين يتوقع منهم التقوى والالتزام بتعاليم الدين الحنيف في تعاملهم، والبعد عن النفاق والرذيلة.

عندما أرى هذا التناقض بين الأقوال والأفعال، والنفاق المستشري بشكل فاقع، تقفز أمامي مقاطع من قصيدة الشاعر الفذّ تي اس إليوت (1888-1965) الأميركي المولد والذي يعد من أعظم شعراء القرن العشرين، والحائز جائزة نوبل للآداب عام 1948؛ ففي قصيدته المعنونة «أغاني الحب لجي ألفريد بروفوك The Love Songs of J Alfred Prufrock» يقول في إحدى مقاطعها: سيكون هناك متسع من الوقت. سيكون هناك متسع من الوقت لتهيئة وإعداد الوجه. للقاء الأشخاص الذين علينا مقابلتهم. ومتسع من الوقت للقتل والخلق...»!

حقاً إن هناك من يتلاعب بكل القيم وﻻ يقيم وزناً لبني البشر في تحقيق مآربهم، فتراهم يتلونون، حسب المواقف، فهم كالحرباء. وهم أبعد الناس عن المبادئ، فهم لا يتورّعون عن عمل أي شيء، حتى لو تطلب الأمر منهم سحق الآخرين، وتصفيتهم معنوياً أو جسدياً، أو اﻻثنين معاً، في سبيل تحقيق أهدافهم الدنيوية الضيقة، والتي يغلفونها ويجملونها بكل الطرق، ومتناسين بأنهم مهما استطاعوا أن يخدعوا بعض البشر، فإنهم مفضوحون من قبل الآخرين، هذا فضلاً عن رب العباد الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

فهؤلاء مهما تقلدوا من مناصب، وجمعوا من أموال، ومهما قاموا به من أعمال، فهم حقيقة ما يخدعون إلا أنفسهم وهم الخاسرون حقاً. فهناك من يتفنن في استغلال المواقف المتناقضة التي تخدم مصالحه، بغض النظر عن مدى صدقية هذه المواقف. بل المهم ضرب المختلفين معهم، وإن كانوا إخوةً في الدين أو شركاء في الوطن، بكل الوسائل الممكنة، ويعدون ذلك من الإنجازات الكبيرة التي يفتخرون بها، طالما يجنون من ورائها المكاسب المادية المختلفة.

فأين نحن من أخلاق الإسلام، وقول أمير الشعراء أحمد شوقي عندما صدح قائلاً:

إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت

فإن هُمُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا

وهو من قال:

صلاح أمرك للأخلاق مرجعه

فقوّم النفس بالأخلاق تستقم

كذلك قال:

إذا أصيب القومُ في أخلاقهم

فأقم عليهم مأتماً وعويلاً.

إقرأ أيضا لـ "محمد عباس علي"

العدد 5052 - الأربعاء 06 يوليو 2016م الموافق 01 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 2:53 م

      مقال رائع جدًا دكتور .. فأن تكون مسلما هو أن تتحلى بمكارم الأخلاق قبل أن يكون مجموعة من الفرائض

    • زائر 12 | 12:23 م

      أحسنت ابو حسين مقال رائع وفي الصميم

    • زائر 11 | 6:59 ص

      مقال ممتاز ويحاكي الكثير من الواقع
      ..سلم قلمك

    • زائر 10 | 6:04 ص

      أحسنت أستاذ محمد عباس أخي الغالي على هذا المقال الصادق! بارك الله فيك! رحم الله والديك!

    • زائر 9 | 3:59 ص

      رائع مقالك دكتور وفعلا
      هناك الكثير من يحسب نفسه ذكي حين يتمكن من الخداع و الكذب ولكنه في الواقع هو غبي لتمكن الشيطان منه

    • زائر 8 | 3:56 ص

      أحسنت دكتور المقال رائع
      من غشنا فليس منا

    • زائر 7 | 3:15 ص

      يجب ايقاض ضميرهم مبكرا والا عذاب الله شديد

    • زائر 6 | 3:03 ص

      هذة واقع مرير

      انا واحد من من خدعو في شراء سيارة
      بعد معاينتها والتفاهم مع صاحب السيارة انها يستخدمها ولا يوجد بها خلل وووووو
      اتضح بعد الاستلام السيارة انها مجلوبة من السعودية وكانت تستخدم تكسي وتم وضع عليها بعض الاكسسوار وتغير ملامح موديلها في الداخل و الخارج كي تبدو انها GL و ليس NX ولكن بعد الاتصال به قال انا لست مسؤل ليش ما تجيك عدل

    • زائر 5 | 3:00 ص

      بدون الاخلاق الانسان مايكون أنسان ,

    • زائر 4 | 2:28 ص

      احسنت دكتور مقال رائع مفيد وذا مغزى.
      اتمنى لو ان شركاؤنا في الوطن يعوا ذلك

    • زائر 3 | 1:44 ص

      موضوع يستحق الشكر والثناء
      شكرا ابوحسين

    • زائر 2 | 1:16 ص

      احسنت النشر يا دكتور محمد مقل رائع
      لاشك أن المدسة للإنسان هي واقع الأسرة فمنها يتعلم الدروس الفضيله اوالرذيله قل الإمام علي عليه السلام
      حسن الأخلاق برهان كرم الاعراف
      شكراً لك يا ابا حسين وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ويعودكم على شهر الصيام

    • زائر 1 | 1:11 ص

      إذا انتشر الغش والتدليس والكذب فهذا مؤشر خطير على استشراء الفساد وانحطاط اﻻخﻻقي. اشكركم على هذا المقال

اقرأ ايضاً