الأمم التي تستهلك أكثر مما تنتج هي فقيرة في مخيلتها أساساً، كي لا نقول منعدمة المخيلة، إذ لا يترك الاستهلاك في حدوده المتنامية، مدىً من تفكير أو إبداع أو خروج غير مألوفٍ بشيء يقنع الأمة التي تنتمي إلى ذلك الاستهلاك بأن مخيلتها مازالت بخير.
لو كانت المخيلة بما تتيحه من طرق تفكير وإبداع حاضرة لدى تلك الأمم لتجاوزت حالة استهلاكها منذ عقود، ولكانت - على أقل تقدير - في الصفوف التي ينظر إليها باحترام من قبل دول وأمم العالم.
في الجانب الآخر من الصورة، هنالك أمم تستهلك الكثير ولكنها تستهلك ما تنتجه وتبدعه وما تفتق عن تجريبها وتطبيقاتها ومحاولاتها التي لا تتوقف، وما فاض من ذلك الإنتاج يجد طريقه إلى أسواق العالم بعد إحداث تعديلات على بعض ما تنتجه كي تتواءم مع متطلبات وإمكانات الأمة التي أدمنت الاستهلاك من دون أن تبذل أبسط العناء في البحث عن الفارق في ما تستقبله وتستهلكه.
لدى مثل تلك الأمم طاقة مفتوحة على المخيلة، وهذا هو لب موضوع هذا المقال، إشارة إلى الطرق التي يتم بها الترويج لبضاعة أو سلعة فيها.
لا يمكن الاستهتار أو الاستخفاف بعقليتها وطرق استقبالها لترويج السلعة. هنالك هيئات وظيفتها ضبط جودة الإعلان والترويج لأي سلعة، والضبط يتعلق في الدرجة الأولى بالمحتوى الذي يتم به التوجه إلى المستهلك، وذلك يعني بذل جهود إبداعية تتفتق عنها مخيلة جيوش من العاملين في شركات الدعاية والإعلان، وتحذر وتتجنب السطحية الفجة من جهة، واستنساخ الأفكار من جهة ثانية، والمغالاة في تقديم السلعة من خلال العمل الترويجي، وهي مغالاة تمس محتوى التقديم وموضوعه أساساً، من جهة ثالثة.
وتكفي متابعة سريعة لنماذج من الفقرات الإعلانية التي تعج بها بعض القنوات الفضائية الأجنبية، التي هي بمثابة استراحة فعلية فيها من الفن والإبداع والقيمة الشيء الكثير، وذلك يشير بالضرورة إلى الهائل واللافت من فعل المخيلة، ولن تجد كثيرين يعمدون إلى التحول بجهاز التحكم نحو قنوات أخرى هروباً من الفقرات تلك، فثمة اشتغال نفسي وفلسفة تقوم عليها تلك الأعمال الترويجية والدعائية، مركزها الرهان على إبقاء المشاهد مع تلك الفقرات، لخفة الروح فيها والسلاسة والأفكار الجديدة والجرأة أحياناً. فلسفة تقوم على: الإعلان الذي ينفر منه المشاهد أو المستهلك يهدد مستقبل أي سلعة وحتى سلطة، باعتبار الإعلان نوعاً من أنواع السلطة، ويهدد صناعة الإعلان نفسها.
أكثر جلسات العصف الذهني في شركات الدعاية والإعلان هدفها تحصين المخيلة من أن يصيبها العطب والشيخوخة، وحين تصاب بهما يعني ذلك خروجها الحتمي من السوق في ظل منافسة شديدة وشرسة لا تقبل بوجود السذج والذين لا يرون أبعد من أقدامهم.
في جانب الشرق المستهلك، عربياً وإسلامياً، تشير الصورة إلى موت المخيلة، لا ضمورها فحسب، في كثير مما يقدم في هذا الفضاء. لا بيت في الشرق العربي والإسلامي لا تمثل له الفقرات الإعلانية اقتحاماً وبتراً لمتعة مشغول بها، لا بيت من أولئك لا يصاب بحال من القرف والضجر كلما قطعت الفقرات الإعلانية عليه متابعة فيلم أو برنامج حواري أو مسلسل. هذا الضجر وذلك الهروب منه، يكشف عن فشل صناع تلك الإعلانات والمخيلات البائسة التي تقف وراءها، ومع ذلك، يظل الاستهلاك في ازدياد وتنامٍ، ولو كانت السلعة الإعلانية فجة وليست ذات قيمة، في موقف مناقض للصورة الأولى.
في شهر رمضان المبارك يكون التنافس بين الشركات والمؤسسات المنتجة للسلع على اختلافها، ومن بينها الاتصالات، على أشده، وهو تنافس يبرز صوراً لسذاجة الذين يقفون وراء إنتاج تلك الحملات، وسذاجة المستهلك في الشرق الذي نعنيه، بدليل ما يقدم له من مواد ترويجية غاية في السذاجة و «العبط» والاستخفاف بعقليته، مع ضمان أن السلعة ستجد طريقها إلى المستهلك!
لهذا السبب يمكن فهم نفور الجمهور (المشاهد) العربي من الفقرات الإعلانية في معظم القنوات الفضائية الرسمية والخاصة. كأن الإعلانات تلك تذكر الجمهور المتسمر أمام الشاشة بواقع سذاجة استهلاكه أو ربما سذاجته.
وفيما يتعلق بقيام هيئات تضبط جودة ومحتوى الإعلان في الشرق العربي والإسلامي الغارق في الاستهلاك حتى أخمص قدميه، فالأمر يعد ترفاً بل يصل إلى حد الهراء. فمن يعبأ بمثل ذلك الضبط أو الجودة مادامت عجلة الاستهلاك تدور ويتم تشحيمها كلما أبطأت، بمزيد من إعلانات السذاجة الفارغة من قيمتها.
أمة متورطة وغارقة في الاستهلاك، لن تنتج عنها مخيلة على مستوى الإعلان، من حيث ضمورها وسذاجة وسطحية محتوى ما تقدمه. كأن السذاجة والسطحية على توازٍ مع سذاجة وسطحية الاستهلاك المفتوح على كل شيء، ولا شيء غير ذلك.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 5047 - الجمعة 01 يوليو 2016م الموافق 26 رمضان 1437هـ
بدون الوعي الثقافي والعملي لا يمكن أن نتخلص من عملية الاستهلاك، الأبناء يتعلمون الاستهلاك من آبائهم وكذلك طريقة نمط الحياة والموروثات الاستهلاكية الخاطئة التي نعيشها سواءً في المنزل أو في المجتمع