سيوفّر النموذج البريطاني، في الانسحاب من عضويَّة الاتحاد الأوروبي بعد 43 عاماً، تجربة حيَّة لكيفيَّة إدارة الحكومة لتوقُّعات شعوبها، حتى وإن كانت هذه التوقُّعات تسير في اتجاه معاكس لما تراه هذه الحكومات، ولرؤيتها وخططها التي وضعتها لكنها لن ترى النور.
بدأت هذه التجربة منذ أن خاطر رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، المؤيد لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وطرح هذا الموضوع للاستفتاء العام على رغم الدعوات من غالبية وزرائه، التي استشعرت مخالفة النتائج لموقفهم، للتوجه إلى البرلمان عوضاً عن الاستفتاء العام. ودفع كاميرون، سليل العائلة الثرية، خريج الفلسفة والسياسة والاقتصاد من جامعة أوكسفورد، إلى إجراء الاستفتاء الذي جاء مفاجأة صادمة لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
والاستفتاء العام هو تقليد ديمقراطي قوامه اقتراع عام مباشر يدعى إليه الناخبون للفصل في تعديلات ذات طبيعة تشريعية أو دستورية، بطلب من الحكومة أو بناء على تعبئة شعبية، يحسب القوانين المعمول بها. ويعد هذا المفهوم من أهم ركائز وتجليات الديمقراطية المباشرة؛ لكونه يتجاوز المجالس التي هي نتاج الديمقراطية التمثيلية ليُؤخذ برأي الناخب البسيط في تعديلات قانونية أو دستورية أو اقتصادية واجتماعية تمسُّ معاشه اليومي، وقد يشمل تأثيرها الأجيال القادمة.
القرار البريطاني يبدو عصبيّاً ومتعصباً ومخالفاً لسير العالم في اتجاه التكتل، وجريئاً بخسائره، الظاهرة، على الأقل من التحليل الفوري وفق المعطيات المتوافرة والمنظورة، في مقابل مكاسب لاتزال أقرب إلى النظرية في أذهان مؤيدي القرار. وتبعات هذا القرار لن تكون على بريطانيا وحدها وإنما على دول الاتحاد الأوروبي إذا ما أخذنا في الاعتبار أن بريطانيا تأتي في المرتبة الثالثة، بعد ألمانيا وفرنسا في عدد السكان إذ يشكل عدد سكانها نحو12 في المئة من إجمالي سكان دول الاتحاد الأوروبي الـ 28 والذي يزيد على 505 نسمات. كما أنها ثاني أكبر اقتصاد بعد ألمانيا ويشكل اقتصادها 20 في المئة من اجمالي الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد. وتكتسب أهميتها في الاقتصاد الأوروبي لكون نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي هو 39,500 يورو مقارنة بمعدل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الذي يبلغ 25000 يورو.
رئيس الوزراء كاميرون المصدوم لم يبالغ عندما اعتبر قرار الخروج قفزة في الظلام، على الأقل من وجهة نظره وهو المؤيد للبقاء، فالمستقبل يراه من خلال رؤيته التي يستند إليها في قرار البقاء. ولذلك فسيترك دفة تسيير الأمور لقائد جديد ذي رؤية تقوم على بريطانيا المستقلة التي تفكر في نفسها ككل وليس كجزء من كلّ ليست لديها سلطان على أطرافه، ذلك شاملاً التعامل مع الشكوك في إلمام هذه الرؤية بتبعات هذا الانفصال الذي قد يقلّم المملكة المتحدة بمضي اسكتلندا وإيرلندا الشمالية في تنفيذ نواياهما الانفصالية وانضمامهما إلى الاتحاد الأوروبي، وفي حجم التعديلات التي لا يتوقع اتمامها خلال عامين المسموحين لاستكمال عملية الخروج، بما فيها علاقة بريطانيا بالاتحاد، وحركة شعوب كلا الطرفين في الجغرافيا الاقتصادية والسياسية الجديدة. وعلاقتها بالعالم الخارجي كوحدة منفصلة وليس كعضو أساسي ومهم في أكبر كتلة تجارية في العالم.
وعلى رغم «الظلام» و«المجهول» اللذين قد ينطوي عليهما القرار، فقد احترمت الحكومة البريطانية خيار الشعب، كما احترمت حكومات الاتحاد الأوروبي احترام بريطانيا لخيار شعبها وحريته في استخدام المادة 50 من معاهدة لشبونة للخروج من الاتحاد. فالحكومة لا ترى خيار الشعب آتياً من العدم، بل هو من نتائج إدارة الحكومة التي أوصلت الناخبين والمستفتاة آراؤهم إلى القناعة التي أخذوا، بناء عليها، قرارهم.
الشعوب المتحضرة التي تحكمها القوانين الراسخة، تستخدم حقها في قول رأيها للحصول على حقوقها وإصلاح أحوالها، ولذلك لم ييأس معسكر الراغبين في البقاء في الاتحاد الأوروبي من المحاولة مرة أخرى بتجميع توقيعاتهم على عريضة وصل عدد المشاركين فيها إلى 3 ملايين خلال ساعات قليلة تدعو إلى إعادة الاستفتاء، مستفيدين من أن نسبة الموافقون لم تصل 60 في المئة في الاستفتاء الذي لم تصل نسبة المشاركة الكلية فيه الى 75 في المئة، كما جاء في القانون.
عندما قال البريطانيون كلمتهم، أصبح كل ما سبقها ماضياً وانطلق كل من موقعه يبحث في إعادة ترتيب أوضاعه وفق المعطيات الجديدة.
المحللون اجتهدوا في مقارنة المكاسب والخسائر لبريطانيا من وراء القرار، والخسائر التي تبدو للوهلة الأولى مكتسحة للمكاسب على جانب الاتحاد الأوروبي. وفيما بريطانيا أطلقت فراملها لتخفيف سرعة الخروج من الاتحاد، ربما لمراجعة النفس، لم يضيّع القادة الأوروبيون، من مناصبهم المختلفة، وقتاً في إعادة الثقة إلى الاتحاد وخصوصاً مع تفشي روح الانفصال من قبل الدول التي كانت تفكّر في الأمر على استحياء مثل فرنسا وهولندا، ومع التخوف المبرر من حدوث انهيارات في بنية الاتحاد، وفي اقتصادات الكتلة.
(23 يونيو/حزيران 2016) بكل علامات الاستفهام والاستنكار والتخوف والمشاعر المختلطة التي يحملها، هو لبريطانيا، يوم فاصل بين مرحلتين، أوصلها له صوت الشعب الممتعض من خسارته لفرص لحياة يراها أفضل عندما تُغلق حدوده عليه، ولا يشاركه فيها جيران «أقل حظّاً» في هذه الحياة. وهو بدون شك يوم فاصل لجيرانها الذين غادرتهم، وربما للعالم.
ولشعوب كثيرة، «أقل حظّاً» أيضاً جلب هذا اليوم لقلوبهم غبطة للشعب البريطاني الذي جنى ثمار ديمقراطيته، وعرّف مصالحه وقال كلمته وترك العالم من حوله يضبط إيقاعه عليها.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 5044 - الثلثاء 28 يونيو 2016م الموافق 23 رمضان 1437هـ