رحم الله الباحث الأكاديمي اللبناني الكبير إسحاق خوري، كان ذا بصيرة كبيرة في التعرف على تاريخ وحاضر المجتمع البحريني عن قرب رغم الفترة القصيرة التي قضاها في البلاد، وجمعه وتوثيقه كل المعلومات لتكون أدواته المنهجية لإصدار واحدة من أهم الدراسات الانثربولوجية في تاريخنا المعاصر، مازالت مرجعاً مهماً وثميناً جداً لمختلف الباحثين في حقول التاريخ والسياسة والاجتماع فيما يتعلق بالبحرين.
الحال مع نظرية المؤامرة لإلقاء تبعية ما يجري في عالمنا العربي من أحداث جسام في حقبته الراهنة برمتها على الغرب، وتجريد أي دور للعوامل الذاتية، لكن ذلك لا ينبغي لنا عزل هذه الأحداث أو اقتطاعها من سياق التطور الذي مرت به أقطارنا العربية خلال تاريخها الحديث، فلقد بات واضحاً أن الشعوب الغربية، وعلى الأخص نخبها السياسية والمثقفة، تفتقر إلى حد أدنى معقول من الوعي بملابسات تلك الظروف التاريخية المعقدة، وتأثيراتها الاجتماعية والنفسية والثقافية التي تركتها الحقبة الاستعمارية الكولونيالية الأوروبية على تطور شعوبنا العربية الحضارية.
وهي تركة ثقيلة للغاية ما برحت تعاني من وطأتها، ولاسيما أن غالبيتها العظمى لم تتحرر منه إلا منذ عقود قليلة فقط. إذ عمل الاستعمار على دفع هذه الشعوب إلى المزيد من التخلف واستنزف ثرواتها بالنهب غير المشروع استنزافاً منهجياً طوال هيمنته الطويلة على مقاديرها. ولعل مؤثرات التركة الاستعمارية الطويلة مازالت مستمرة إلى يومنا هذا ومن ضمنها على وجه الخصوص نسبة الأمية المرتفعة في بعض البلدان العربية، كمصر على سبيل المثال لا الحصر، أكبر هذه البلدان سكاناً وأهمها من حيث المكانة الثقافية والحضارية، حيث لازالت نسبة الأمية فيها تفوق الـ50 في المئة، وحينما تصل نسبة الأمية في مجتمع ما إلى هذا المستوى، فبلا شك يتدنى لديه الوعي السياسي بضرورة الديمقراطية ولو بالنسبة نفسها في أحسن الفروض.
علماً بأن الاستعمار صادر كل حقوق شعوبنا العربية السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية والاجتماعية، بما في ذلك حقها في التطور الديمقراطي الكامل الحر المستقل، ولم يسمح في أحسن الأحوال سوى بالتطور الديمقراطي المقيد والمشوَّه، كما هو الحال في النموذجين المصري والعراقي تحت الاحتلال الإنجليزي.
ولو أن الشعوب الأوروبية والغربية عامةً، وعت بهذه الإشكالية المعقدة التي مرت شعوبنا العربية بها، لأدركت أن انظمتها الاستعمارية التي تفتخر بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتنادي بها إنما تتحمل جزءاً كبيراً أخلاقياً وأدبياً من المسئولية التاريخية لنمو نبتة الإرهاب الشيطانية في التربة العربية، فلم يكن مصادفة تاريخية بأن هذه الشجرة الشوكية بثمارها المرة، لم تنبت فجأة أو تهبط على عالمنا العربي مصادفة من كوكب آخر، وإلا فلمَ لم تظهر مثل هذه «النبتة» تحديداً في أراضي أوروبا ذات التطور الديمقراطي المديد أو في البلدان التي لم تمر بظروف تاريخية واجتماعية بالغة التعقيد شبيهة بالتي مرت بها جُل الأقطار العربية كأميركا اللاتينية مثلاً؟
إن دور العامل الاستعماري والأنظمة الدكتاتورية الشمولية، كعامل رئيسي في خلق بيئة الإرهاب في المنطقة، لا ينفي بطبيعة الحال، كما ذكرنا، دور العوامل الأخرى التي تضافرت معه والتي ليس هنا موضع تناولها في هذه العجالة.
الأخطر والأنكى أن ذلك الاستعمار الغربي، وعلى الأخص البريطاني، عمل على توريث وزرع واحد من أخطر أشكال الاستعمار الحديث في قلب الوطن العربي ألا هو الاستعمار الاستيطاني ممثلاً في إقامة الدولة الصهيونية العنصرية الإرهابية على أرض فلسطين العربية بالقوة وتشريد معظم شعبها، ومازالت هذه الدولة السرطانية الغريبة على جسم المنطقة العربية منذ نحو سبعة عقود تمثل العقبة الكأداء في تطور كل العرب، لا الفلسطينيين وحدهم، بل مصدراً دائماً لإثارة الاضطرابات والحروب وعدم الاستقرار في المنطقة برمتها، بسياساتها العدوانية، ومطامعها التوسعية، وتعجرفها المستديم في رفض أي تسوية تضمن ولو الحد الأدنى من الحقوق العادلة للشعب العربي الفلسطيني، مهما قدّمت قيادة هذا الشعب من تنازلات، وتصر على ضم الجولان السوري المحتل إلى «دولتها»، وبطبيعة الحال ما كانت لتقف كل هذه المواقف المتعنتة لولا ما تتمتع به من مختلف أشكال الدعم السياسية والاقتصادية والعسكرية من الدول الغربية الاستعمارية السابقة نفسها، فضلاً عن الولايات المتحدة التي برزت كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية ممثلةً للوجه الاستعماري الجديد في المنطقة، وهي الداعم الأول والأقوى لإسرائيل في شتى تلك المجالات.
وبهذا فلو أن الأقطار العربية قُدر لها تاريخياً ألا تتعرض لذلك الظلم التاريخي من الاستعمار الأوروبي القديم، والحالي ممثلاً بالاستعمار الأميركي الجديد، أو لنقل في أدنى الفروض: لو أن هذا الأخير الذي حل محل الاستعمارالقديم لم يقم بعرقلة انبثاق وعي شعوبنا، وتطورها الديمقراطي المستقل من خلال دعمه ومساندته للأنظمة الشمولية التي حاربت وقمعت ومازالت تحارب وتقمع شعوبها للحيلولة دون نيلها مطالبها المشروعة في الحقوق الديمقراطية أو انتفاضاتها وثوراتها المطلبية من أجل الإصلاحات الديمقراطية الشاملة الجذرية أو لإقامة أنظمة ديمقراطية في ظل تعذر إصلاح الأنظمة المهترئة القائمة، فهل كانت التربة العربية صالحة لتنبت فيها تنظيمات كـ «القاعدة» أو «داعش « و «جبهة النصرة» وأضرابهما من الجماعات الإرهابية؟!
والمضحك المبكي أن كلا الطرفين اليوم، الدول الأوروبية الغربية الاستعمارية، ومعها الولايات المتحدة من جهة، والدول الشمولية العربية المتحالفة معها من جهة أخرى باتا يشكوان إرهاب «داعش» وكأن لا صلة لكليهما على الإطلاق من قريب أو من بعيد بتمهيد التربة والمناخ لنمو بذرته، والتي من نتاجها كما نعلم ولادة التنظيم الأم «القاعدة» إبان تعبئتهم دينياً ونفسياً على تأدية فريضة الجهاد ضد الاحتلال السوفياتي الكافر في أفغانستان، كفريضة مقدمة على الجهاد من أجل تحرير بيت المقدس والمسجد الأقصى، حيث أولى القبلتين وثالث الحرمين، وبتشجيع ودعم مالي وعسكري غير محدود من قِبل الولايات المتحدة وبما يخدم في المقام الأول مصالحها الاستراتيجية في المنطقة في سياق حربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي.
وللأسف لم يكن أي من الطرفين الأميركي والعربي حينها خلال سكرة كليهما بمهمة طرد الوجود العسكري السوفياتي من أفغانستان مبالياً لا بالنظام الذي سيحل محل النظام اليساري الأفغاني المتطرف، ولا بما سيفعله المجاهدون العرب الذين اكتسبوا أعظم خبرة قتالية مميزة بعد عودتهم إلى بلدانهم، ولتبدأ منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي وحتى بعد إنهاء الوجود العسكري السوفياتي في أفغانستان، فانهيار الاتحاد السوفياتي برمته، فصول جديدة من ملهاة الكوارث والمآسي الدامية مازالت تتوالى على أيدي «التنظيم» الأم والتنظيمات التي انشقت عنه، على نحو ما نشهدها في سورية والعراق وليبيا ومناطق أخرى من عالمنا العربي.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5043 - الإثنين 27 يونيو 2016م الموافق 22 رمضان 1437هـ