تتنوع الهدايا المتبادلة بين القادة والزعماء والشخصيات السياسية حسب اهتماماتهم وهواياتهم، فمنها السيوف والخيول، والأولى هي الأبقى، ومنها الأسلحة التقليدية الحديثة كالبنادق والمسدسات، وهذه في الغالب تُحفظ في ركن مناسب من منزل الشخصية السياسية أو الزعيم المهداة إليه كتُحف منزلية. لكنّ هديتين من هذا النوع من زعيمين سياسيين خبّأت الأقدار لهما أن يكون لهما شأن في صنع حدثين تاريخيين تراجيديين على قدر من الأهمية.
الهدية الاولى عبارة عن مسدس، والثانية عبارة عن بندقية. المسدس أهداه رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة علي ناصر محمد إلى زعيم الحزب الشيوعي اللبناني الأسبق الراحل المغدور جورج حاوي، لدى إحدى زياراته لليمن الجنوبي، والمؤكد أن الأول لم يهدهِ للثاني إلا على سبيل دلالته الرمزية الثورية بين رفيقين، فالأول لعب دوراً في حركة تحرّر بلاده من الاستعمار الانجليزي في الجنوب العربي المحتل، والثاني ضمن الرموز القيادية للقوات اللبنانية - الفلسطينية المشتركة التي كانت حينئذ تخوض صراعاً مسلحاً ضارياً مع قوات التحالف اليميني اللبناني بتعاون ودعم مكشوف ومفضوح من قبل «إسرائيل»، وبالتالي لم يدر بخلد الرئيس الجنوبي أنه سيكون لهديته شأن في حدث مهم، وذلك عندما أرسلها حاوي لفتاة شابة من أعضاء حزبه، مُكلفة بتنفيذ عملية اغتيال بحق قائد جيش لبنان الجنوبي العميد انطوان لحد، حيث أصابته بإصابات بليغة، لكن ليست بقاتلة وكانت ضربة معنوية لجيشه، ومن أسباب تفككه واندحاره في معركة تحرير الشريط الحدودي بعدئذ.
أما الهدية الثانية، البندقية، فقد أهداها الثائر العالمي المعروف تشي جيفارا الذي قُتل في العام 1967 أسيراً على قوات النظام البوليفي العميل للولايات المتحدة، إلى رئيس تشيلي سلفادور الليندي، أول رئيس يساري يصل إلى الرئاسة عن طريق نظام ديمقراطي دستوري تعددي العام 1970 خلال الحرب الباردة. وكان الليندي من الشخصيات اليسارية النادرة في العالم الثالث التي تُغلّب الخيارات السياسية والوسائل السلمية، ومنها النضال البرلماني لتحقيق الإصلاحات الجذرية أو لإقامة حكومات اشتراكية مُنتخبة على خيارات العنف الثوري والكفاح المسلح في بلدان أميركا اللاتينية. ولم تكن قناعات جيفارا تلتقي مع الليندي في هذه المسألة السياسية لانعدام فرصها في هذه البلدان كما كان يرى.
لكن ذلك لم يمنع من أن تربطهما صداقة رفاقية نضالية، وشاءت المقادير أن تكون البندقية التي أهداها جيفارا لصديقه الليندي برمزيتها الكفاحية أن تكون هي السلاح الذي انتحر به لكي لا يستسلم للانقلابيين بقيادة الجنرال بينوشيه، بعدما أيقن أنه سيقع في الأسر في معركة الدفاع عن قصره الرئاسي. ومع أن الرئيس التشيلي المنتخب الليندي كان من أنضج القيادات اليسارية في العالم الثالث التي كانت تدافع عن إقامة أنظمة تعددية دستورية، وترفض وصول اليسار للسلطة عن طريق الإنقلابات العسكرية، كما كان له موقف حازم مندد بقوة بالتدخل العسكري السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا العام 1968 فيما عُرف بـ«ربيع براغ»، إلا أن ذلك كله لم يشفع له لدى الولايات المتحدة من تدبير انقلاب عسكري ضده على أيدي عملائها من جنرالات الجيش العام 1973، ما أن شعرت بأن سياسات الرئيس الليندي الإقتصادية تلحق الضرر بمصالحها الاستثمارية في البلاد، هي التي تعتبر بلدان أميركا الجنوبية برمتها حديقتها الخلفية.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5038 - الأربعاء 22 يونيو 2016م الموافق 17 رمضان 1437هـ