قبل أيام، نشر الـ HUFFINGTON POST في نسخته الفرنسية تقريراً لافتاً. التقرير كان يتحدث عن عشرة من العلماء المسلمين، الذين أحدثوا ثورات «علمية» و «ثقافية» غيّرت من صورة ومستقبل العالم والبشرية، سواء من حيث إسهاماتهم في علوم الرياضيات أو الفلسفة أو الطب أو علم الاجتماع، أو غيرها من العلوم الأخرى. وذكر التقرير اسم عباس بن فرناس كواحد من أولئك العلماء العشرة، ممن كان له دور علمي بارز ما زالت البشرية لغاية اليوم تتفيّأ بظلال إنجازاته.
الحقيقة أن التقرير المذكور أسعدني وأحزنني في آن واحد. أسعدني لأنه أنصف ذلك الرجل بعد أزيَد من ألف ومئة وأربعين سنة على رحيله. وأحزنني لأنه قلَّب علَيَّ المواجع في المآل الذي وصل إليه بعض من أولئك العلماء ومنهم بن فرناس على المستوى الشخصي، حين اتُّهِموا بالزندقة وفساد العقيدة، ما عرّضهم إلى الاعتقال والمحاكمة الجزائية (والمعنوية كذلك) والغربة الاجتماعية.
دعونا اليوم نتحدث عن تجربة عباس ابن فرناس، سواء العلمية أو تجربته مع «الاتهام». بداية من الأسلم أن نسرد شيئاً عن حياة هذا الرجل كي نحيط بمنجزه العلمي. وُلِدَ أبو القاسم عباس ابن فرناس بن ورداس التاكرني عام 810م في مدينة ملقة الأندلسية (جنوب إسبانيا اليوم)، حيث عاصر الخليفة الأموي الخامس في الأندلس. وتدل المصادر على أن ابن فرناس هو من أصول أمازيغية.
ووصِفَ ابن فرناس أنه من أعلام عصره «وهو فيلسوف وعلامة رياضي فذ» وطبيب برع «منذ فُتُوَّته في الفلسفة والفلك والكيمياء الصناعية». ويذكر المؤرخون أنه أول من اخترع «صناعة الزجاج من الحجارة» في الأندلس، فضلاً عن صناعته للكثير من الآلات بينها آلة فلكية عُرِفَت بـ «الميقاتة» حيث ساهم من خلالها في التعريف بالأوقات والأزمنة فكانت سبباً في إحكام الناس لنظام عيشهم.
وتورِد المصادر نصاً للوزير عبدالحميد بن بسيل أحد قادة الخليفة الناصر أنه قال: «أبدع عباس بن فرناس طول أمده إبداعات لطيفة واختراعات عجيبه، بالإضافة إلى أنه كان «مُجيداً للشعر، حسن التصرف في طريقته، كثير المحاسن جم الفوائد». هكذا ورد.
لكن من الأشياء اللافتة التي اشتُهِرَ بها ابن فرناس هي محاولاته في الطيران محاكياً حركة الطير وتحليقه في الجو. فالمصادر تشير إلى أن الرجل عكف مدة عشرين عاماً وهو يراقب حركة الطيور وفي ذات الوقت يعكس ما يراه على آلة طيران أحاطها بجناحيْن صنعهما من الريش والحرير والخشب. وعندما اطمأن لعملها (أي آلة الطيران) قصد جبلاً بمعية بعض أصحابه فرمى بنفسه في الهواء محاولاً الطيران كما تفعل الطيور.
كانت مغامرة بكل ما للكلمة من معنى. وقد أفلَح الرجل في التحليق وإنْ لوقت قصير لكنه سقط على الأرض ما تسبَّب له بكسور في ضلعيْه جعلته يعاني طيلة اثني عشر عاماً. ويقول المؤرخون إن السبب في سقوطه هو عدم اهتدائه لدور الذيل في الطير وتوازنه خلال التحليق. ويقول آخرون إنه أعاد المحاولة وهو في السبعين من عمره، لكن المهم من كل ذلك هو أنه حاول وبجرأة في الطيران.
وقد كانت فكرته هي نواة الاختراعات التالية للطيران الشراعي إلى أن تطور إلى ما هو موجود في يومنا هذا من نظام طيران متقدّم، أراحَ الناس وسهّل عليهم تنقلاتهم التي كانوا يستهلكون في سبيلها أسابيع وشهوراً، وتعرّضهم لمشقة ومخاطر القتل أو السرقة أو الموت في الطريق.
نأتي الآن لعرض الصورة الأخرى من المشهد. فبقدر ما أنجزه عباس بن فرناس في محاولته تلك في الطيران، وما كان يمتلكه من علم غزير وقدرة على الاختراع العلمي إلاَّ أن حياته كانت مليئة بالمآسي والمحاكمات الاجتماعية والدينية التي قضت على شخصه ومستقبله، وجعلت علومه إبّان حياته محل رفض وشكّ واستهزاء فـ «أثار ابن فرناس باختراعاته المدهشة ريب الجهلاء، فكثر الطعن في عقيدته، واتُهِمَ بالزندقة، ولكن القضاء لم يجد سبيلاً إلى إدانته» كما جاء في المصادر.
وقد أورد ابن سعيد المغربي نصاً لابن حَيَّان يصف فيه عباس ابن فرناس حيث يقول: «حكيم الأندلس الزائد على جماعتهم بكثرة الأدوات والفنون» إلى أن يقول: «كان فيلسوفاً حاذقاً وشاعراً مفلقاً مع علم التنجيم، وهو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأول من فك بها كتاب العَرُوض للخليل، وكان صاحب نيرنجات (كلمة فارسية تعني الأعمال النادرة العجيبة) كثير الاختراع والتوليد واسع الحِيَل حتى نُسب إليه السحر وعمل الكيمياء وكثر عليه الطعْن في دينه».
وجاء في كتاب دولة الإسلام في الأندلس أن عباس ابن فرناس «اتُّهِمَ بالزندقة لما أبداه من براعة علمية وفنية خارقة». وهو عصر كثرت فيه مثل هذه الاتهامات كما حدث لابن مسرة وكيف طُورِد تلاميذه وطوردت تعاليمه «وأصدر الناصر منشوره بتكفيره وتكفير تلاميذه» وكما حدث كذلك للفقيه الورع أبي عبدالرحمن بقي بن مخلد القرطبي باتهامه بـ «الزندقة، والإيقاع به لدى الأمير».
هذه تجربة مؤسفة حصلت في تاريخنا الإسلامي. واليوم يُتَرحّم على ذات الرجل الذي رُجِمَ بفساد العقيدة في عصره، وهي التهمة التي عرّضت حياته للخطر. وما أكثر النماذج المماثلة لابن فرناس في تاريخنا. وهي نماذج ما زالت الساقية تطوف بها حول آخرين كي تجعلها إحدى صور المستقبل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5031 - الأربعاء 15 يونيو 2016م الموافق 10 رمضان 1437هـ
قمة الرقي في الحضارة العربية و الاسلامية كان في الأندلس في ايام حكم من اسسوا دولة العلم و المعرفة و الحضارة و الفن و الرقي و الجامعات و التقدم
بينما اعدائهم لم يشهد لهم التاريخ انهم بنوا حتى كوخ في غابة
رحم الله الدولة العظيمة
و رحم الله علمائها و مؤسسيها
ماعليه استهدي بالرحمن الريال مات واقبل على رب غفور
لحظة. لحظة! توقف رجاء! في الفقرة الثانية من مقالتك تتأسف علي إتهام بن فرناس بالزندقة. إكتب لي اسما واحدا . اكرر : إسما واحدا وليس اثنان من علماؤنا الذين نتفاخر بهم و نسمي معاهدنا و مستشفياتنا و جامعاتنا بأسمائهم. نعم واحدا فقط و لم يتهم بالكفر و الإلحاد و الزندقة و ضرورة هدر دمه !
اليوم نفس الشيئ. نعذبهم و نهجرهم الي الغرب. لوتخالفون هذا الواقع كذبوني بدليل رجاء.
بالإضافة الي العلماء ماذا نصدر الي الغرب؟ المبترين والقاطعين للرؤوس !
عقليتنا و مفاهمينا و ثقافتنا العامة بحاجة الي تغيير جذري.