(المقال ينشر بالتعاون مع موقع منبر الحرية)
تعتبر الحقوق السياسية جزءا أساسيا من حقوق المواطن، وتتضمن عدة أشكال من الحقوق كالتعبير عن الرأي وحرية المعتقد السياسي والمشاركة في الوظائف العامة والمشاركة في الانتخابات ترشحا واقتراعا. وشكلت فكرة الانتماء للأحزاب جزءا أساسيا من طبيعة الممارسة السياسية، وخاصة بعد تكريس حق تأسيس الجمعيات التي اختلفت أدوارها وفقا لطبيعة موضوعها. فظهرت النقابات لتدافع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولعبت دورا أساسيا في العمل السياسي من خلال الضغط في مطالبها على السلطة. كما ظهرت جمعيات أخرى اهتمت بالنشاطات المدنية والثقافية. وأصبح المواطن، في إطار هذه الحقوق مجتمعة، ينتمي إلى الدولة من خلال هذه الروابط المختلفة، التي تشكل في الإطار العام مفهوما خاصا للعمل السياسي.
وهنا يقتضي توضيح ماذا نعني بالعمل السياسي، وكيف يفهم المواطن هذا العمل؟
تختلف نظرة المواطن إلى هذا الدور وفقا لخصوصية حاجاته وواقع دولته والمخاطر التي يعيشها. وتختلف الأولويات بين الشعوب، فنجد مثلا أن معيار ممارسة المواطن الأوروبي حقه الانتخابي، يرتكز على مدى تأمين المرشح حقوقه المدنية وخدمته والسياسة الضريبية، وغيرها من الأمور الحياتية التي يشعر الفرد من خلالها بأمنه الاجتماعي والنفسي. كما نجد مثلا أن أولوية المواطن الأميركي على إثر الأزمة الاقتصادية، تركزت على اختيار المرشح الذي يهدف إلى إيجاد حلول لمشكلة البطالة وتحسين الاقتصاد. تتنافس الأحزاب، في تلك الدول، سواء اليمين أو اليسار، على عرض برنامجها الذي يخدم هذه الأولويات، ولا يبحث المواطن بعلاقات دولته الخارجية. أما مفهوم ممارسة الانتخابات في البيئة اللبنانية فهي دائما مرتبطة بالدور الذي يلعبه المرشح في مشاكل وجودية على صعيد الوطن وليس على مستوى حياة الفرد. فشكلت القضية الفلسطينية والقضايا القومية المحور الأساس لممارسة العمل السياسي، ونسي المواطن أن دور ممثله في البرلمان يتضمن أيضا دورا تشريعيا ماليا وضريبيا وعقابيا وبيئيا. ونجد أن هذه المقاربة للحق الانتخابي انتقلت إلى الانتخابات البلدية التي يفترض أنها تخدم العمل الإنمائي. وبذلك يختلف مفهوم السياسة هنا، بحيث أصبحت تمثل الارتباط بخطر وجودي على مستوى الجماعة، دون أن يكون للمواطن كيان على مستوى الفرد.
وكان للأحزاب في المجتمع اللبناني الدور البارز في انخراط المواطن في العمل العام، ولعبت الأحزاب السياسية أو النقابات والحركة الطلابية في فترة معينة من تاريخ لبنان دورا أساسيا في حياة السلطة وقراراتها. وكان المواطن من خلال انخراطه في الأحزاب يشارك في إدارة الدولة سواء في السلطة أو من خلال المعارضة، التي كان من شأنها توجيه الرقابة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما الآن فقد اقتصر مفهوم السياسة على العلاقات الدولية خارجياً والمصالح الطائفية على المستوى المحلي التي اندمجت بالعمل الحزبي، متناسية بشكل كلي أي وجود للمواطن إلا من خلال الطائفة. واعتبرت تلك الأحزاب أن مؤسسات الدولة هي رصيد في حسابها المادي تستخدمه في علاقتها بالمنتخب، بدل أن تكون المشاركة في الوظيفة العامة هي حق أساسي من حقوق الإنسان السياسية.
وبالنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، نجد أن البعد المباشر لهذا الجو يدخل في عودة الجماعة إلى مرحلة بدائية في البحث عن حقها وأمنها، من خلال ذوبان الفرد في المجموعة ذات اللون الطائفي الواحد، دون النظر إلى أي قيمة لوجوده كإنسان له حقوق تكرست منذ ما قبل إعلان الدول بمفهومها الحديث. وكذلك يتمثل بحركة الفرد – ولا أقول مواطن – بالبحث عن حقوقه الأساسية أو حتى الطبيعية دون غيرها من الحقوق، التي أصبحت أساسية في الدولة الحديثة من الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وكأن الجماعة في البيئة اللبنانية، لم ترتبط بالدولة كمؤسسة رغم ما يناهز المئة سنة على تشكيل الدولة. مع العلم بأن الحركة السياسية الحزبية في مرحلة القرن الماضي تفاعلت مع الجماعة على اعتبارها البيئة الحاضنة التي تخطت حدود الدولة. وبذلك نلاحظ أن الزمن يسير في مسار عكسي للتطور الطبيعي لحياة الجماعات في العالم، ما يطرح إشكالية اندماج الفرد في البيئة السياسية والمؤسساتية التي يعيش فيها.
في ظل هذا الواقع، ظهرت مجموعات مختلفة من الحركات المدنية ضمن إطار الجمعيات، منها ما يشبه الجمعيات غير الحكومية على الطريقة الغربية والتي تتواءم مع التطور الغربي في الأفكار وطريقة النشأة والمشاريع، سواء كانت منظمات دولية غير حكومية أو جمعيات محلية، كما انتشرت ونشطت الجمعيات المدنية المحلية، سواء في إطار أندية و»جمعيات لا تبغي الربح» أو حتى مجموعات غير ممأسسة في شخصية معنوية، إفساحا في المجال لحرية الحركة واللقاء خارج القيد النظامي، ما يشكل أيضا وجها من أوجه التحلل من الارتباط بهذه المنظومة الإدارية- السياسية.
ولعبت هذه المجموعات المدنية وتلعب دورا مهما في تشكيل وعي جديد على مستوى الحركة المدنية الشعبية، مبنية على المفاهيم الحقوقية الأساسية، وربما الوعي السياسي في معناه الواسع. وفي مقاربة مع التطور الاجتماعي في المجتمعات العالمية تشكل هذه المجموعات القوى الضاغطة على السلطة لتلفت انتباهها أن فئات ليست بقليلة من المجتمع المحلي لا تجد نفسها ممثلة في الحياة السياسية العامة، في ظل قانون انتخابي أكثري، وتسلط الحزبية الطائفية على العمل المدني من البلديات إلى الهيئات الاقتصادية إلى النقابات وغيرها من الوسائل الضاغطة التقليدية.
في هذا الإطار، يتبادر إلى ذهننا التطور الإداري في منظومة عمل الشركات الكبرى التي تسيطر على السوق الاقتصادي والعمالي والاجتماعي، والذي عرف في المرحلة الأخيرة بمفهوم الحوكمة؛ أي آلية الإدارة الحديثة للشركات بإدخال مفهوم المسئولية الاجتماعية على نشاط ومقررات هذه المؤسسات الاقتصادية. إن هذه المقاربة تظهر أهمية الحركة المدنية سواء على مستوى القطاع الخاص والقطاع العام، ولكنها تظهر أيضا التوازي في كيفية اتخاذ القرارات بين القطاعين، رغم الاختلاف الجوهري حول أدوارهما وأهدافهما.
الملاحظة الأساسية في هذا المجال تثير البحث بشأن انعكاس عمل القطاع الخاص على مفهوم الإدارة العامة أو خلط المفاهيم ببعضها بين القانون العام والقانون الخاص. لذلك نجد أن هذا الدور، الذي كانت تضطلع به الدولة كمؤسسة، تقلص مع الأنظمة الاقتصادية الحديثة.
بدأ هذا النهج في لبنان من خلال أنواع خاصة من العقود الإدارية، حيث بقي للمؤسسات الرقابية الإدارية منها والقضائية، دور وازن في ترجيح كفة حقوق المواطن. ولكن مع الجموح الحاصل في العمل السياسي المحلي الذي جمع بين المصالح الحزبية والطائفية والمالية، ظهرت أنماط جديدة من التشريعات والمراسيم تكرست من خلال سيطرة القطاع الخاص وسيطرة مالكيه على القطاع العام وشلل في المؤسسات الرقابية، من خلال الشركات العقارية الكبرى في مواجهة حق المواطن في السكن والسيطرة على الأملاك العامة والمساحات المشتركة أو دور الشركات المالية والمصارف التي أصبحت الوسيط الجبري في تقديم الخدمات الأساسية، وتفشي أشكال التراضي في العقود الإدارية، ونشوء المناطق الاقتصادية الخاصة التي تخرج في أطرها العملية والعقدية عن سيادة الدولة. كل ذلك في نهج تحاصصي بين المصالح السلطوية الحزبية-الطائفية-المالية، دون أي ضمانة لأولوية المصلحة العامة.
لعل دور المواطن في حركته المدنية كقوة ضاغطة على العمل السياسي، يشكل ممارسة للعمل السياسي على غرار ما يتضمنه مفهوم الحوكمة، والذي يتلخص بتعزيز الشفافية والمحاسبة الدائمة والمستمرة لعمل الهيئات الحاكمة بما لا يخالف القيم الأساسية لحقوق الإنسان، لذلك أصبحت هذه القوة تشكل ركنا أساسيا من أركان الإدارة والحكم في المجتمعات الحديثة.
وبذلك، دخل إضافة إلى دور المؤسسات الرسمية في الرقابة والإدارة، التي أصبحت تشكل «الأدوات الخاصة» للقوى المسيطرة على المؤسسات الدستورية، عنصرا إضافيا وضروريا وهو دور المجتمع المدني.
العدد 5031 - الأربعاء 15 يونيو 2016م الموافق 10 رمضان 1437هـ