كلما تقدّم بنا العمر، فهمنا أن بعضاً من مفاهيمنا ليس كلها ذات صواب، بل ليست ذات معنى، ونضطر إلى أن نعيد محاولة الفهم مرة أخرى، فهمنا إلى ذاتنا وقدراتنا وإمكانياتنا، وماذا نريد وإلى أين سنصل؟ وفهمنا إلى علاقتنا مع الله، هل نحن راغبون أم طالبون، علاقة شكر أم حاجة، أم اضطرار، عبادة عادة أم عبادة عبودية.
نحن بحاجةٍ إلى فهم مفاهيمنا حول الآخر المختلف، بل فهم مفاهيمنا التي نحملها وتسيطر علينا، ومنها نعيد صياغة حياتنا، وبالقدر الذي نحاول فيه الفهم مرةً أخرى، نستوعب أيضاً مسببات هذا الفهم، حتى لا نعيد الكرة مرةً أخرى؛ ولكن بمغالطات جديدة وبتكنولوجيا حديثة.
اللغة تلعب دوراً كبيراً، وهي ما يحدّد فهمنا للعالم الخارجي، فيرى عالم الاجتماع الأميركي وورف سايبر «أن اللغة ليست مجرد أداة تستخدم لإعادة التعبير عن أفكارنا، بل أنها تشكّل الأفكار والبرنامج والمرشد للنشاط الذهني للفرد والتحليل وانطباعاته، والتركيب المخزون الذهني». وهذه النظرية تُعرف بالنسبية اللغوية، وفكرتها مفادها أن اللغة تحدد التفكير، بمعنى أن المتكلمين باللغات المختلفة لديهم إدراكات وتصورات مختلفة عن العالم، فأهالي الاسكيمو لديهم أسماء كثيرة للثلج، بينما لا تتضمن اللغة العربية إلا أسماء معدودة له بعكس الرمال. وهذا يعني أن كل لغة تفصل ما يدور في العالم على مقاسها ورؤيتها الخاصة، ليس كل ما ثبتته اللغة في مفاهيمنا صحيحاً، خاصةً أن لغتنا متأثرة، لذا من يجيد أكثر من لغة نجده أكثر فهماً وتقبلاً للآخر.
علاقتنا بالماضي ومرجعياتنا الثقافية هي الأخرى بحاجةٍ إلى فهم، فهي مرتبطة بظروف تاريخية مختلفة، وقد أبرزتها منظومات حضارية شتى، لكنها أدخلت في تشكيلاتنا الثقافية وأصبحت جزءًا منا، وهي من ترسم فهمنا على رغم اختلاف المحددات، فتقديس التاريخ، أصبح جزءًا منا، لكن ذلك لا يعني أنه ليس هناك ما هو مقدس على الإطلاق، ولا يمكن هنا السير وفق ما يشير إليه الفيلسوف الألماني كيت: «لتكن جريئاً في نقد المقدسات»، بمعنى أن الصواب والخطأ يخضع لتجربة الشخص، فلا فرض ولا وصاية ولا قانون أخلاقي مسبق يحكم السلوك ويهذبه، وفي الوقت لا يذهب الإنسان شططاً في كل ما يورثه مقدساً، حتى أصبحت بعض الأعراف ضرباً من المسلمات، وهذا فيه نوعٌ من التماهي مع كل ما هو متعارف ومتبوع، وليس كل جماهيري هو عين صواب، فارضاً جماهيريته علينا، فالإمام علي (ع) يصنف الناس إلى ثلاثة: «عالمٌ رباني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع أتباع كل ناعق».
فالهمج عند ابن الأثير، تعني: الذباب الصغير الذي يحط على وجوه الغنم والحمير، وقيل هو البعوض، وأما الرعاع فهو من لا فؤاد له ولا عقل. لقد شبّه الإمام (ع) المجموعة الثالثة التي لا تكلف خاطرها عناء التفكير والتحقيق، بذبابٍ أحمق يندفع حيثما ارتفعت صيحة ما دون أن يعرف صاحبها أو ما إذا كانت على حق أم على باطل، تدفعه الريح حيثما هبّت، ويميل معها حيث تميل. فالعلة في انحدار هؤلاء هي عدم استضاءتهم بنور العلم، وافتقارهم إلى عقيدة وأفكار تنبني على أسسٍ وطيدة، إذ يؤكد الإمام ضرورة المعرفة مخاطباً كميل ابن زياد: «يا كميل ما من حركة إلا وأنت محتاجٌ فيها إلى معرفة».
نعم نحن بحاجة إلى معرفة وفهم، معرفة لا تدعونا إلى شيطنة الآخر وتعظيم الذات، فالشياطين موجودة؛ ولكن ليس كل مختلف عنا شيطاناً، ولسنا بدون أخطاء، وما نعتقده ونمارسه بحاجةٍ إلى إعادة وفرملة، فهناك الكثير من المفاهيم عالقة بحاجة حلحلة، فهل نبدأ؟
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 5031 - الأربعاء 15 يونيو 2016م الموافق 10 رمضان 1437هـ
جميل أن نقرأ مثل هذه المواضيع
أتوجه بالشكر للكاتبة... المواضيع المهمة والمفيدة كل ما يتمناها القارئ، فعلاً مقال في غاية الروعة
الله يوفقك. كرري مقالك كل يوم. اذا حصل تغيير رجاء أخبريني.