بأدبه المعهود وقلمه الرشيق طلب منّي الصحافي البارز ليث الحمداني تقديم كتابه «أوراق من ذاكرة عراقية»، وقبل أن تصلني المخطوطة، جاء صوته المعروف بنبرته العراقية الشجية، ليواصل السؤال عنّي بعد وعكتي الصحية، وليبلغني بأن كتابه سيكون جاهزاً للطبع، وهو يرغب في أن أكتب له مقدمة، وهو ما أدخل السرور إلى قلبي، لسببين أساسيين:
الأول، أن ليث الحمداني من الصحافيين المتمرّسين والذين خبروا المطبخ الصحافي بكل مذاقاته، حيث عمل في ميادين عدّة، وكانت الكثير من الصحف والمجلات تخرج طازجة وساخنة من «تنّوره»، ويتلقّفها عشرات الآلاف من الناس، الذين كان بعضهم متلهفاً لها، وخصوصاً في تلك الأيام التي كانت للصحافة نكهتها الخاصة ونفوذها الكبير في صناعة الرأي العام أو التأثير عليه أو المساهمة فيه، فضلاً عن حضورها الفاعل في الوسط الثقافي والفني وفي أجواء الحوار الفكري والاجتماعي ودورها السياسي المؤثر.
كان ليث الحمداني من المواقع المختلفة التي شغلها عاشقاً حقيقياً للحرف ورائحة الورق وماكنات الطباعة من صفّ الحروف إلى الأوفسيت إلى أدوات الطباعة الحديثة وتكنولوجيا الإعلام لاحقاً. والصحافة الورقية التي اعتادت النخبة على اقتنائها لم تكن مصدر الخبر فحسب، بل كان فيها الجديد: من المعلومة إلى القصيدة والمقالة والدراسة والبحث، والنقد وصولاً إلى الكاريكاتير، وهكذا كانت حاضرة بقوّة في جميع مجالات الحياة.
وإذا كان المذياع «الراديو» قد بدأ يتسلّل إلى البيوت دون استئذان، ويستمع الناس إليه في المقاهي والسيارات والمحلاّت العامة، قبل انتشار التلفزيون، إلاّ أن تأثيره وإنْ كان كبيراً لكنه يختلف عن الصحافة ، فهو يعتمد على الصوت وسرعة إيصال المعلومة أو الخبر أو الرأي وقد لا يحتاج إلى التعمّق الضروري، كما لا يمكن إعادة ما تمت إذاعته، فإنْ لم تسمع الخبر أو المعلومة أو الحكاية، فإنها ستكون قد فاتتك، وإن سمعتها ولم تتوقّف عندها، فلا تستطيع تدقيقها. في حين أن الصحافة فيها فسحة واسعة من التأمل والقراءة المتأنّية والمراجعة والاستذكار والتدقيق، كلّما استدعت الحاجة والضرورة إلى ذلك، وكذلك يمكن التوثيق من خلالها بالاحتفاظ بها، والعودة إليها أو إلى قرارات أو قوانين أو آراء أو وجهات نظر نشرتها، فضلاً عن أخبار أو حوادث احتوتها، سواءً لتأريخها أو لاستخدامها في البحث أو لقراءة دلالتها في سياقها التاريخي.
ومع إن الراديو ولاحقاً التلفزيون، وفي العقدين الماضيين الموبايل والانترنت ووسائل الاتصال الحديثة الأخرى، بما فيها الطفرة الرقمية «الديجيتل»، أصبحت تأثيراتها خارقة على مئات الملايين من المتلقّين في ظل العولمة وثورة المواصلات والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، إلاّ أن الصحافة الورقية وعلى رغم انتشار الصحافة الإلكترونية لم تفقد دورها أو تنتهي وظيفتها مثلما هو الكتاب، حتى وإن ضعف دورهما إلى حدود كبيرة جداً.
في تلك الأيام كان يكفي قصيدة أو مقالة تتناقلها الأيدي أو تنشرها الصحافة لتصبح وسيلة للتحريض والتعبئة، بل منظماً أحياناً، مثلما كان برنامجاً ساخراً وجاداً في الآن ذاته، يقدّمه من إذاعة بغداد الصحافي المعروف شمران الياسري «أبو كاطع» وعنوان برنامجه «إحجيه بصراحة يبو كَاطع» يفعل فعله، لدرجة إنه بعد عقود من الزمان أصبح الناس يرددون عنوان برنامجه «إحجيه بصراحة يبو كَاطع»، حتى وإن لم ينسبوه إليه، أو ربما لا يعرفون مصدره، وذلك لأنه استقرّ في الذاكرة الجماعية الشعبية، وخصوصاً أنه كان خفيف الظل يمزج الأقصوصة والحكاية بهموم الناس ويملّحها بشيء من السخرية، وإذا كان برنامج أبو كاطع في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات، فإن عموده الصحافي «بصراحة أبو كَاطع» في صحيفة «طريق الشعب» الناطقة باسم الحزب الشيوعي في السبعينات، كان بمثابة بارومتر للأوضاع السياسية في العراق. وكان الناس يقرأون صحيفة طريق الشعب بالمقلوب، أي من الصفحة الأخيرة التي تنشر عموده.
ولهذا فالصحافة، وسواء كانت الورقية في الماضي أو الإلكترونية اليوم، تختلف عن الراديو أو التلفزيون، حتى بعد العولمة وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والاتصالات وتحوّل العالم إلى قرية كونية، ويبقى لها جمهورها، ولا أعتقد أنها ستفقد دورها كلياً حتى وإن خَفَتَ لمعانها وضَعُفَ بريقها وانخفض رصيدها إلى حدود كبيرة، لكن تأثيرها كان كبيراً في الماضي، حتى وإن كانت دائرة المتلقّين محدودة، والثقافة العامة شحيحة، باستثناء النخبة، التي ستكون مشغولة بالحرف والصورة والإخراج، وبالمعنى والمبنى كما يُقال.
وبحسب ألبير كامو، فالصحافي هو «مؤرخ اللحظة»، وما يكتبه يمكن أن يكون مادة أولية للمؤرخ والباحث السسيولوجي والسيكولوجي والقانوني والحقوقي والتربوي والثقافي والعلمي والتقني والرياضي والسياحي والمعرفي والصناعي والزراعي والتجاري والاقتصادي والمالي والبيئي والصحي، وفي جميع فروع المعرفة واختصاصاتها المختلفة.
لقد اشتغل ليث الحمداني في حقول كثيرة متخصصة في عمله الصحافي، ولذلك فقد اختزن خبرة مهنية ومعرفية كبيرة، حيث ابتدأ عمله كهاو ومراسل ومنشغل بالفكاهة وفن الضحك أو السخرية، حتى وإن كانت حزينة، ثم انتقل إلى مواقع جادة وحسّاسة لها علاقة بالصناعة والاقتصاد والتنمية، لكن حسّ الفكاهة لم يفارقه وظلّت الفكاهة تعنّ عليه وأحياناً تطلّ برأسها حتى في كتابته الجادة. وحسبما يقول ماركس «إني أقف مما هو مضحك موقفاً جاداً» أو كما يقول الشاعر المتنبي: وماذا بمصر من المضحكات/ ولكنّه ضحك كالبكاء.
شغل ليث الحمداني مواقع مسئولة متعدّدة مثل مدير التحرير أو مشرف أو رئيس لقسم أو محرّر أساسي أو نائب لرئيس التحرير أو رئيس للتحرير. وفي كل تلك المواقع كان ليث الحمداني يعمل بذات المنهج وبنفس الحماسة، فالصحافة بالنسبة إليه تعني الحياة والكون، إنها عالمه الروحي الذي لا يمكنه العيش بدونه، فهي حبل السرّة الذي يربطه بمحيطه الخارجي.
والسبب الثاني الذي شعرت فيه بالارتياح لكتابة هذه المقدمة، هو أن تجربة ليث الحمداني الجديدة في الصحافة الإلكترونية بعد الصحافة الورقية، وبالترافق معها أيضاً، أكسبته خبرات جديدة ظلّ الكثير من صحافيّ ذلك الجيل يفتقرون إليها، بل إن البعض لم يقاربها، أما ليث الحمداني فقد قام بإصدار صحيفة البلاد من لندن أونتاريو في كندا (ورقياً وإلكترونياً)، حيث واصل القديم بالجديد، واستفاد من كل مخرجات الحداثة، بما فيها الكومبيوتر والإنترنت، وساهم اطلاعه على الصحافة العالمية، بما فيها العربية التي تصدر في الخارج في صقل تجربته المتميّزة، وخصوصاً وقد حمل في نفسه «القابلية على التطوّر» باستعادة عبارة الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، (الذي كتب عن بعض الشعوب التي لديها القابلية على الاستعمار، أي قبوله).
وكان الحمداني ميّالاً إلى التجديد، ولديه القدرة على استيعابه والتكيّف مع متطلّباته ومستلزماته، فضلاً عن توجّهه للاستفادة من كل تغيير يحصل على صعيد الطباعة وعلومها وفنونها، سواء على المستوى العلمي- التقني أو على المستوى الفني والجمالي، فضلاً عن المستوى الحقوقي والاجتماعي، وبالتأكيد على الصعيد المهني والأخلاقي، وتلك مواصفات تُحسب له وتميّز بها، وخصوصاً تمسكه بالجانب المهني والأخلاقي.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 5026 - الجمعة 10 يونيو 2016م الموافق 05 رمضان 1437هـ