تنتشر أحياناً ممارسات فاسدة، ولكنها بغطاء قد يبدو لمن يقوم به كما لو أنه ليس فساداً. ففي ثمانينات القرن العشرين، مثلاً، كنت قد تقدمت إلى وظيفة في إحدى المؤسسات، وكان الشخص الذي يقابلني يتحدث مع شخص آخر على الهاتف... وأثناء الحديث فهمت منه أنه قد وفر على المؤسسة ملايين الدنانير، لأنه استطاع الحصول على ماكنة تؤدي الغرض ذاته، ولكن بربع السعر. كان الحديث يبدو عادياً لولا أنني التقطت من مكالمته حديثاً عن مكافأة مالية «يستحقها» نتيجة لتمكنه من شراء ماكنة بسعر أقل بكثير مما كان مخططاً له سابقاً... ففي رأيه أنه يستحق الحصول على مكافأة مالية مقابل ما فعله.
الحديث سمعته مرة أخرى بعد فترة من متدرب في شركة كبرى، وكان يبدو عليه أنه ضامن الوظيفة مئة في المئة بعد الانتهاء من التدريب والذي يشمل دراسة في الخارج. عرفت بعد الحديث أن والده كان يعمل مسئولاً في تلك الشركة، ولكنه أراد أن يثبت أن ذلك لا علاقة له بتفوقه في وظيفته، إذ إنه كان قد وفر على الشركة أكثر من نصف مليون دينار؛ لأن الشركة كانت تعتقد (بحسب ما كان يقوله) بأن جزءاً من المنشأة قد عطب ويجب تبديله، ولكنه أثبت من خلال إجراء حسابات هندسية أنه لا داعي لذلك، وأنه بعد ذلك حصل على مكافأة مالية على ذلك (لا بد وأن لوالده دورا في تشخيص ودفع تلك المكافأة).
هذا الحديث تكرر كثيراً خلال فترات لاحقة، فقد تسمع من شخص أنه استطاع أن يخلص الشركة من دفع بعض الأموال لتخليص المواد الأولية، وبالتالي فإن له الحق أن يأخذ نسبة مئوية من المال الذي تم توفيره على الشركة. هذا قد يبدو منطقياً، ولكنه في الواقع هو نوع من التكسب «غير المشروع» على حساب المؤسسة. فمن يعمل في مؤسسة ما يجب عليه أن يحافظ على أموالها وثرواتها وعلى تعاملاتها، وأن لا يخصص نوعاً من «الجمرك» يقتطعه لنفسه إذا اعتقد بأن إدارته حققت نوعاً من التخفيض في التكاليف. إن ذلك يعتبر فساداً، وإلا فإن على الشخص نفسه أن يدفع مقابل أي قرار يتسبب في خسارة أو كلفة عالية (أكثر مما تم تدوينه في الموازنة) للشركة، أو بعد أن يتسبب بحريق لماكنة مثلاً، أو أي شيء آخر.
المصيبة عندما تنتقل مثل هذه الممارسة من المؤسسة الصغيرة إلى المؤسسة الكبيرة ثم إلى الوطن، وبالتالي فإن الفساد ينتشر من دون إمكانية للوقوف في وجهه.
التكسب قد يكون عبر «الرشاوى المنتظمة»، أو الأساليب غير القويمة، والتي تصبح وكأنها أمر عادي مع الزمن. فلقد كتب أحد الأميركيين مقالاً في «نيويورك تايمز» في 19 أبريل/ نيسان 2016، أشار فيه إلى أمر حصل له عندما سافر ذات مرة إلى الهند كممثل لوزارة الخارجية الأميركية... وشرح كيف أنه التقى بمسئول هندي في وزارة العلوم والتكنولوجيا، وأنه بعد أن التقاه في مكتبه الوزاري المتهالك لمناقشة التعاون الهندي الأميركي حول البحث العلمي، وبعد فترة وجيزة بادره نظيره الهندي بالقول إن «الوزارة لديها ميزانية كبيرة لاستضافة مؤتمر لأصحاب المشاريع الأميركية والهندية العاملة في مجال العلوم... وأنت تعرف الكثير من رجال الأعمال، لذلك لماذا لا تنظم المؤتمر نيابة عنا، وسوف أدفع لك رسوما، مقابل أن تدفع لي (شخصياً) مرة أخرى 10 في المئة من رسوم المؤتمر».
وبحسب الكاتب الأميركي، فإنه تفاجأ بأن نظيره الهندي لم يجد أدنى حرج في اقتراح الرشوة، والتي من المرجح أنها أكبر من راتبه السنوي.
هذا التكسب على حساب المؤسسات يعتبر واحداً من أكبر مسارب الفساد التي تنتشر، أحياناً تحت عنوان أن الشخص وفر على المؤسسة مصروفات، وأحياناً من خلال الحصول على جزء من المال مقابل أن يقوم شخص آخر بالعمل بصورة مناسبة. هذا التكسب على حساب المؤسسات، سواء كان مخفياً أو علنياً، أو بأي شكل من الأشكال، يجب ألا يفسح له المجال، وألا يحصل على تبرير من أي نوع؛ لأن التساهل معه هو هدر وفساد وإخفاق من دون حدود.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 5025 - الخميس 09 يونيو 2016م الموافق 04 رمضان 1437هـ
السلام عليكم،، اذا كان التشخيص للعمل المضاف صحيحا فانه من الجيد مكافأة الموظف،، ولا ارى ذلك فسادا،، ان ذلك يساعد على نشر روح الإبداع والولاء لتطوير المؤسسة..
أحسنت دكتور منصور! بعضهم جذي يتكلم عن إنجازاته وغيره للتباهي ويسوي روحه طالع فيها! يصعرون خدهم للناس ويمشون في الأرض مرحا والله لا يحب كل مختال فخور! واتشوفهم امرهم عجب والله! من يسوون خير يراؤؤون ويبهدلون الناس انهم سوو هالخير! ما تسوى على الناس قبلوا منهم هالخير والمؤسسة ابنفسها ما تسوى عليهم وظفة ناس جذي يبون يسوون روحهم طالعين فيها وكله يمنون!
مقال رائع ، استطعت أن تسلط الضوء على جانب من الفساد المالي. شكرا دكتور
دكتور ،،، التكسب انواع على الاقل اللي كتبت عنه سوه شي ، غيره قاعد على المكتب مايحرك شي ولا حتى يسوي شغل ويحصل راتب وعلاوات وسفر يفوق معدل اللي يشتغل ويكدح في نفس الشركه ناس بس لسانها حلو ونفاق شوفه قاعد ياكل خير الشركات والوزارات كلهم فساد في فساد.
حتى زيادة الراتب فيها فساد اداري وحتى يمكن وزاري خلها على الله ديره ريوس واحين احنا في بداية السقوط في الهاوية والسبب الفساد وضعف الحكومة.
تسلم دكتور
تسلم دكتور على هذا المقال ففعﻻ الكثير من الموظفين يعتبرون الرشوة أو المكافأة حق أصيل يعني انا عندي سوبرماركت لو العامل يكتشف خلل بسيط يجي يبغي مكافأة حتى لو إلى اكتشفة من أصيل عملة.
مقال ممتاز
شكراً دكتور علي هذا التنوير
أعتبره تنويراً رغم أنّي واجهت هذه السلوكيات كثيراً في المؤسسة التي عملت فيها زمنناً طويلاً
بصراحه رغم أني كنت أشمئز من المسؤلين بالشركة الذين يتعاملون مع الشركة بهذه العقليه ويحصلون علي ما يعتقدونه حقاً لهم نتيجة بذل جهد إضافي أو إعمال للفكر وإن كان بشكل ملتوي وغير أمين( بغرض توفير أموال علي الشركة ) إلّا أنَّ الفكره الأساسيه من هذا السلوك الغير قويم وتصنيفه بأنه فساد لم تخطر لي من قبل