العدد 502 - الثلثاء 20 يناير 2004م الموافق 27 ذي القعدة 1424هـ

حرية الصحافة... قوة تغيير ديمقراطي

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

في مسلسل حديثنا عن ضرورات الإصلاح السياسي الدستوري الديمقراطي في بلادنا، نقول إن الصحافة الحرة والإعلام المستنير، قوة تغيير حقيقية، من أهم القوى المعروفة على الساحة العامة.

وبالتالي في عصر ثورة المعلومات والإعلام والديمقراطية، لم تعد الصحافة ومعها الإعلام بكل وسائله، مجرد بوق أو آلة دعائية - كما كان الحال في الماضي - مهمتها قاصرة على الترويج السياسي العقائدي، وتلميع نظم الحكم وتجميل وجوه الحكام، وتسطيح المواقف وتلوين الحقائق وإخفاء المعلومات وحجبها عن الرأي العام لأن الحكومة تريد حجبها.

وبالقدر نفسه لم تعد الصحافة طاقة تنفيس فقط، هدفها امتصاص غضب الرأي العام، والإيحاء بأن الحريات كاملة والحقوق مصونة، بدليل أن الصحف تنتقد هذا المسئول، أو تعارض تلك الحكومة، الأمر الذي يبدو أمام الرأي العام كما لو أن هذه الصحف حرة فعلا، بينما هي تقوم بدور «منظم البخار» يتولى تسريب البخار الزائد حتى لا ينفجر الإناء بكل ما فيه؟ لكن الحقيقة تظل واضحة لأصحاب البصائر، فالبخار موجود ناتج عن غليان، والمنظم بحكم اسمه يقوم بدور محدود، لكنه لا يلغي حال الغليان ولا تكاثر البخار وضغوطه!

وها نحن دخلنا عصرا يعتمد الحقيقة والمعلومة والرقم الموثق، ويؤمن بحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، ويؤكد حق المواطن في الحصول على المعلومات من مصادرها، وحريته في تداولها بكل الأساليب، من دون إخفاء أو حجب أو تزويق وتلوين... وبذلك ازدهرت الصحافة والإعلام في بلاد كثيرة شرقا وغربا، ونفضت عن نفسها غبار الكسل الذاتي والرقابة المباشرة وغير المباشرة، ودخلت في منافسة حادة سعيا للوصول إلى الرأي العام، بإقناعه أولا ثم التأثير فيه ثانيا، ودفعه نحو التطوير والتغيير ثالثا...

لن نتحدث طبعا عن الصحافة الغربية - الأوروأميركية - التي استقرت لها تقاليد الحرية والاستقلال عبر القرون، لكننا نتحدث عن الصحافة الجديدة التي ازدهرت حديثا في بلاد صغيرة وفقيرة وحديثة النشأة والتطور، ظهرت خارج «حضانة» الليبرالية الغربية الكلاسيكية، وإن كانت استفادت من خبرتها، فانتعشت في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية - التي تتشابه معنا في الظروف والأوضاع - ولعبت دورا رئيسيا في تغيير وتطوير هذه المجتمعات، نحو التقدم والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.

ومن باب إقرار الواقع نقول إن بعض البلاد العربية، أصابها شيء من تطور دور الصحافة ومفهوم رسالتها، فظهرت هوامش ملحوظة من حرية الرأي والتعبير، في مصر والمغرب ولبنان والكويت والأردن، على سبيل المثال، لكنها للأسف ظلت «هوامش» لعبت في الأطراف، من دون أن تتعمق في مركز عملية التطوير وتلعب دورها المأمول منها في التغيير الضروري والمطلوب، الأمر الذي نتجت عنه أكثر من نتيجة، أهمها استمرار ظلال الهيمنة الحكومية على الصحافة وإن خفت قبضتها بعض الشيء، وثانيها استمرار فقدان الرأي العام للثقة في هذه الصحافة نتيجة غياب الصدقية، وثالثها استمرار الضغوط الأجنبية على الصحافة الواقعة بين المطرقة الداخلية والسندان الأجنبي، بحجة أنها صحافة حكومية عاجزة!

وحين نراجع بعض أهم التقارير الدولية الصادرة عن منظمات عالمية للدفاع عن حرية الصحافة وضمانات الصحافيين، سنلاحظ على الفور تصنيفها الصحافة في الدول العربية في الخانة السوداء، بحكم افتقادها المعايير المتعارف عليها لحرية الصحافة، وهنا نشير إلى التقارير الأحدث التي نشرت خلال الأسبوعين الأخيرين - على سبيل المثال لا الحصر - والصادرة عن منظمة «صحفيون بلا حدود» في باريس، ولجنة حماية الصحافيين في نيويورك، والتي صنفت الصحافة العربية في قائمة «فاقدة الحرية»، ونعرف أن هذا الوصف أصبح مكررا عاما بعد عام، بما يمثل وصمة يجب أن تزال...

فإذا أضفنا تقارير مهمة أخرى، مثل التقرير السنوي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان العام 2003، وتقرير التنمية الإنسانية العربية للعام نفسه، وقد أكدا الواقع المرير نفسه الذي تعانيه الصحافة في بلادنا، جراء السيطرة الحكومية على رغم كل ادعاءات التطوير الديمقراطي، لأدركنا على الفور أن الشهادات - ولا نقول بالضرورة الإدانات - الدولية والعربية ليست في صالح الأوضاع الحالية، سواء أوضاع التطور الديمقراطي بصفة عامة، أو أوضاع حرية الصحافة بصفة خاصة.

فما معنى الحديث عن حرية الصحافة؟ وماذا تعني حرية الكلمة؟

ربما تكون المادة 19 من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر العام 1948، وضعت الإطار العام لحرية الصحافة والرأي، والتعبير كحق من حقوق الإنسان الأساسية، وعلى هداها سارت معظم دساتير دول العالم، بما فيها الدول العربية، لكن حين ننزل إلى الواقع نكتشف أن قوانين 17 دولة عربية مثلا، تحمل الكثير من القيود التي تسلب هذه الحريات والحقوق، وبالتالي تعوق أداء الصحافة مهمتها كقوة تطوير وتغيير في المجتمع، وتبقيها من ثم مجرد طاقات للتنفيس، بل وللتلوين والتزويق والدعاية، لأنها تحت القيود مازالت تفتقد المعايير الأساسية القائمة على قواعد محددة هي: الحرية والاستقلال والتعددية وتدفق المعلومات وحرية إصدار الصحف وتكوين مؤسسات الإعلام.

وعلى رغم أن السنوات الأخيرة وتحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية، شهدت بعض التسامح الحكومي المحدود مع الصحف والإذاعات والتلفزيونات التجارية والخاصة، فإن الهيمنة بل الاحتكار الحكومي للمؤسسات الصحافية والتلفزيونية الأهم، ظل معوقا لتطوير الأوضاع الصحافية، حتى تلتقي على المعايير الدولية، وبالتالي ظل كابحا لقيام الصحافة الحرة بدورها المستقل كقوة تغيير، تسهم بشكل جاد في مسيرة الإصلاح السياسي الديمقراطي الحقيقي والمنشود.

والدليل العلمي، هو أن دول الهامش الديمقراطي، تسمح بقدر من حرية الرأي، وتتمتع الصحف والصحافيون بحرية النقد في موضوعات ما يسمح به الخط الأحمر، لكنها تظل حرية تعبّر ولكنها لا تغيّر، فيظل الصحافيون يكتبون، ويبقى المسئولون كما هم يمارسون كل ما هو موضع نقد، ويقع الرأي العام في حيرة مزمنة وفقدان ثقة في الجميع، واصفا الوضع بأنه تعبير عن حرية الصراخ!

ونظن أن هذا الوضع المسيء لم يعد قابلا للحياة بعد الآن، وخصوصا أننا نتحدث عن ضرورة إجراء إصلاح دستوري سياسي شامل، يدفع ببلادنا نحو التطور الديمقراطي الحقيقي... وإذ يلعب الرأي العام، عبر المنظمات الأهلية والمجتمع المدني دورا رئيسيا في إجراء التغيير والإصلاح، وإذ تلعب الصحافة الحرة دور القاطرة التي تشد المجتمع كله نحو التقدم، إن اكتسبت صدقيتها!

وبدلا من مبادرة حكوماتنا بالقيام بتحرير الصحافة والإعلام، وإفساح الطريق لقيامها بواجبها كقوة تغيير وتنوير، سارت في خط معاكس، حين استغلت «الحرب الأميركية ضد الإرهاب» وغزو واحتلال العراق وإطلاق الوحش الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، وما صاحب كل ذلك من سريان الهواجس الأمنية وإجراءاتها المشددة، لكي تحكم قبضاتها الحديد، على الحريات العامة بشكل أساسي، وعلى حرية الصحافة بشكل خاص، فإن كانت أميركا قلعة الديمقراطية تفعل ذلك جهارا نهارا، فلماذا لا نفعله نحن؟!

ولذلك لم يكن غريبا أن يكون العام 2003 مثلا، هو العام الأسود للصحافة، ليس فقط بسبب قتل عدد كبير من الصحافيين في الحرب ضد العراق، أو في العدوان المستمر ضد الفلسطينيين، ولكن أيضا بسبب اشتداد القيود على الصحافة والصحافيين وتضييق مساحات الحرية، وزيادة عدد المحكوم عليهم بالسجن والانتقال والاختفاء في أكثر من دولة في المنطقة، وصولا إلى إعادة الصحافة والإعلام إلى موقعها الأول، مجرد آلة دعاية وترويج تحت الهيمنة الحكومية، بعد أن كانت حاولت التحرر، لتؤدي دورا في مهمة التغيير الديمقراطي الحقيقي.

ومن عجب أن يكون «البرنامج الأميركي لتعزيز ونشر الديمقراطية» في «الشرق الأوسط»، بما يتضمنه من إصدار صحف وإذاعات وتلفزيونات أميركية، مثل إذاعة «سوا» و«تلفزيون الحرة»، وعدة من الصحف، يمثل اليوم التحدي الأكبر والأخطر أمام صحافتنا، التي عليها أن تعمل على مقاومة الضغط والتشدد الحكومي لعرقلة دورها وحريتها من ناحية، وأن تعمل على مواجهة هذه الهجمة الإعلامية الأميركية من ناحية أخرى، أي ان عليها أن تحارب في جبهتين في وقت واحد، جبهة الضغط الداخلي وجبهة الضغط الخارجي.

ولا نشك لحظة في أن الطرفين قد تلاقيا عند مصلحة واحدة، وهي إضعاف وتقويض أية فرصة لقيام صحافة حرة وطنية مستقلة في بلادنا، تحمل قضيتي الاستقلال الوطني والإصلاح الديمقراطي، على رأس مسئولياتها ومهماتها، ولذلك فإن الطرف الأول يتحدى بالقيود المتشددة من الداخل، والطرف الثاني يتحدى بالضغوط المتشددة من الخارج، الأول لا يريد حكاية الإصلاح الديمقراطي، والثاني لا يطيق حكاية الاستقلال الوطني، كلاهما يريد الهيمنة، كل بطريقته ووفق مصالحه وأهدافه الحاكمة.

فمن يحمل مسئولية هذه الأوضاع الخطيرة؟

من السهل نظريا أن نلقي المسئولية كلها على الطرفين المشار إليهما سابقا، فنبرئ الذمة، مكتفين بحرية الصراخ أحيانا، أو بحرية الصمت أحيانا أخرى...

ومن السهل أيضا أن نقول إن المسئولية يتحملها الصحافيون وحدهم، فهم أصحاب المهنة المستفيدون منها، وعليهم الدفاع عنها... لكن الحقيقة التاريخية غير ذلك، فهذه مسئولية المجتمع بكل قواه الحية، وخصوصا قواه السياسية والحزبية والمهنية والفكرية المختلفة، تلك التي تعمل وتناضل دفاعا عن استقلال الوطن وديمقراطية الحكم ويقظة الضمير، وبالتالي فهي تتحمل مسئولية الدفاع عن صحافة وطنية حرة ومستقلة، تعمل في سياق اجتماعي عام كقوة تغيير رئيسية نحو الأفضل والأصلح...

ومن ثم فإن مقاومة التضييق الحكومي على حرية الصحافة والرأي والتعبير، جنبا إلى جنب مع مقاومة الضغوط الأجنبية، في هذه الظروف العصيبة التي نمر بها جميعا، هي مسئولية مشتركة، يتحمل كل فرد منا جانبا منها، فهذه قسمة الغُنم والغُرم...

فحرية الصحافة ليست امتيازا للصحافيين وحدهم، لكنها امتياز للجميع، وعلامة على حرية الرأي والتعبير للمجتمع، وإلا سيبقى الحال على ما هو عليه، وعلى المتضرر أن يلجأ إلى القضاء... والقدر!

خير الكلام:

يقول علي الغاياتي:

لئِن قيّدوا مني اليراعَ وأوثقوا

لساني، فقلبي كيفما شئتُ ينطقُ

مدير تحرير صحيفة «الأهرام» المصرية

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 502 - الثلثاء 20 يناير 2004م الموافق 27 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً