لقد اطلعت على المقال الممتاز للدكتور صبحي غندور مدير مركز الحوار بالولايات المتحدة في جريدة «الوسط» البحرينية بتاريخ 30 مايو/ أيار 2016، وأتفق معه تماماً في كل ما ذكره عن العروبة. ولاشك أن العروبة بالنسبة لدعاتها والمؤمنين بها هوية، والهوية هي وثيقة الصلة بالذات الإنسانية وبكيان الفرد وتراثه وحضارته، ولذا فهي متعددة الأبعاد ومتطورة أيضاً في تجلياتها وممارساتها، وفي الإحساس والشعور بها، فقد انتعشت في الشام نتيجة سوء معاملة العثمانيين ونظرتهم للعرب، وانتعشت لدى المسيحيين الشوام بأكثر من المسلمين، فهي ليست ثوباً يرتديه الإنسان، كما أنها لا تتوقف على موت شخص مهما كانت قيمته .
وأنا شخصياً أعتز بمن أسميهم رواد الدعوة للفكر العربي، والمفهوم العروبي والقومية العربية مثل ساطع الحصري ومنيف الرزاز، وغيرهم من المفكرين من بلاد الشام ومصر والجزيرة العربية وبلاد الرافدين والشمال الإفريقي السابقين في طرح المفهوم، بقدر اعتزازي بالفقيد العروبي كلوفيس مقصود، مثل الاعتزاز بمن ابتكروا التنقيط في الحروف العربية، ومن كتبوا القواميس، على رغم أن بعضهم ليس من أصول عربية مثل الفيروزابادي وسيبوبه.
أما الراحل كلوفيس مقصود فلم يتنكر لعروبته طوال حياته؛ بل كان منافحاً عنهاً، كما نافح عن فلسطينيته حتى الرمق الأخير. ولقد التقيت به في نيويورك عندما كان رئيساً لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في نيويورك أثناء عملي مستشاراً ثم نائباً للمندوب الدائم لوفد مصر بالأمم المتحدة في الثمانينات، كما لمست نشاطه الجم في الهند عندما كان رئيساً لمكتب جامعة الدول العربية، حتى بعد مغادرته عندما ذهبت لتولي منصب مستشار السفارة المصرية في نيودلهي، كما تعرفت عليه عبر أنشطة كثيرة في المؤتمرات الدولية.
ومن وجهة نظري ويشاركني في ذلك الرأي والنظرة كثيرون من أبناء لغة الضاد، وهو أن العروبة تسري في عروق كل عربي، وأنها ليست دعوة عنصرية إنما هي ثقافة ولغة وهوية ارتبطت بالإسلام كحضارة، وهو الذي أعطاها قوة دفع، ووحدة هدف، وانتشاراً، وكما عززها الإسلام فهي التي حملته للعالم خارج الجزيرة العربية، وفهمت حقيقته لارتباط ذلك باللغة العربية دون انتقاص لقدر ومكانة ومساهمة غير العرب وغير المسلمين في الثقافة والحضارة العربية عبر العصور وفي مختلف أرجاء المعمورة.
وعلى خلاف ما يذهب إليه بعض المفكرين من الدعوة للهويات الضيقة، مثل الفينيقية أو الفرعونية ونحوها غيرهما، فإنني أقول إن مصر على سبيل المثال عرفت العروبة بل ارتبطت بها منذ العهد الفرعوني، عندما عبر الطرفان للجانب الآخر من البحر الأحمر، وأيضاً منذ قدوم سيدنا ابراهيم وزوجته سارة لمصر، وتزوجه بعد ذلك من هاجر تلك المصرية البطلة والشجاعة التي عاشت حياة قاسية في أرض غير ذي زرع مع طفلها الصغير إسماعيل كأحد أبرز من ينتسب إليه بعض العرب، ولكن العروبة أيضاً لا تقتصر عليه بل تمتد لغيره. والعروبة لا تنحصر في المفهوم الديني بل هي كما ذكرت مسألة هوية عميقة الجذور، ومسألة ثقافة وحضارة. وأنا أكن تقديراً كبيراً لأبرز الشخصيات التي نشطت في الدعوة للعروبة وهو الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وتأكيده على مفهوم الهوية، ورفضه لأصحاب الفكر العنصري أو الاستعلائي أو الغيبي للعروبة.
أما أهم عربي في تاريخنا الحديث فهو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فكان دائماً شديد الفخر بعروبته، بلا تحيز ولا عصبية، ولذلك روي عنه قوله «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى». وفي نفس الوقت روي عنه قوله «أنا عربي من ولد عدنان ولا فخر. كما إن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، وفقاً لما ورد بالنص في آياته الكريمة، ولكنه لم يقتصر على العرب؛ بل أرسل للعالم كافة بل للجن والإنس، واعترف بمختلف الأديان والعقائد، كأديان بغض النظرعن رؤيته لمدى صدقها أو عدمه، نتيجة لما طرأ عليها من تغيرات بفعل الزمن واختلاف طبائع وعادات الشعوب.
ولذلك فأنا أرفض المقولة باقتصار مصطلح الدين على الأديان السماوية الثلاثة فقط، بل القرآن الكريم نفسه قال مخاطباً من أطلق عليهم تعبير الكافرين بقوله لمحمد نبي الإسلام بأن يخاطب من لا يؤمن به وبرسالته بقوله «لكم دينكم ولي دين» (الكافرون: الآية 6) والدين بحسب المفهوم القرآني ليس فقط دين الإسلام بل إن الدين الإسلامي نفسه له معناه الفلسفي اللاهوتي إذا جاز استخدام مثل هذا التعبير إنه دين الإسلام الذي يعني الاستسلام لإرادة الله ولحكمته ولقضائه والخضوع لمشيئته والتعبد له بأية وسيلة حسب كل شريعة أو مذهب وهذا هو التسامح الإسلامي الحقيقي عندما يقول القرآن الكريم «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم» (الإسراء: الآية 44)، والتسبيح هو مخ العبادة مثل الدعاء سواء بسواء.
إنني مصري وعربي وفرعوني ومسلم وإفريقي. وهوية مصر يضاف إليها البعد المسيحي القبطي في نفس الوقت فتصبح هوية شاملة متكاملة لتاريخ وحضارة مصر عبر العصور.
إن الهوية العربية ليست إقصائية لغيرها من الأبعاد الأخرى للهوية، وهذا ما أكدت عليه في دراساتي وبحوثي وأحدثها كتابي عن «هوية مصر في عالم متغير» الصادر في القاهرة من مؤسسة دار التحرير (جريدة الجمهورية) 2016. مفهوم التغير هدفه مواكبة التطور بالإضافة أو بتغيير الأولويات ونحو ذلك، فهوية مصر الإفريقية أو بالأحرى البعد الإفريقي أو البعد الإسلامي لا يؤثر أي منهما على هويتها العربية، وكذلك البعد القبطي في الهوية المصرية والبعد الفرعوني، فاللسان هو أساس الهوية.
والثقافة هي حاضنتها، ولذا كل من ينطق العربية منذ مولده، فهو عربي، ولا تثريب على من اعتنق العربية بالتبني والتعلم مثل المستشرقين أو بالأحرى المستعربين. ولهم الشكر والتقدير على خدمتهم للثقافة العربية، وبعدها الإسلامي أو أية أبعاد أخرى.
وأود أن أشير هنا إلى واقعة ذات مغزى ودلالة، إذ قال النبي محمد لأصحابه عندما كسفت الشمس بعد وفاة ابنه إبراهيم، فاعتقد البعض أن الشمس كسفت حزناً على ابن النبي، فقال لهم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تغربان ولا تكسفان لموت أحد. وأضيف هنا أنه مهما كان قدر هذا الإنسان من بني البشر ومكانته.
تلك بعض التأملات التي ترتبط بمفهوم العروبة والقومية، ويكفي أن هذا المفهوم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الوطنية والولاء، له من شواهد ذلك حب النبي محمد لوطنه مكة عندما هاجر، ونظر إليها قائلاً «والله إنك لأحب بلاد الله إلي، والله وأحب بلاد الله إلي، ولولا إن أهلك أخرجوني ما خرجت». ويكفي أن الله ذكرها بالإسم أو بالإشارة أكثر من مرة في القرآن الكريم، وخصها بسورة أسماها وهي «سورة البلد». وهذا أكبر دليل لمن ينسى حب الوطن ويدعي الإسلام.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 5017 - الأربعاء 01 يونيو 2016م الموافق 25 شعبان 1437هـ