ما لم تفتح لك القصيدة حضنها من الوهْلة الأولى؛ ناهيك عن إمساكك بها، قبل أن تجد ما تودُّ أن يكون شعراً. بعض الأصوات... النصوص، تفرد لك ما بعد النص حضناً بحجم فضاء، تسكنه ولن تصاب بالحنين ما دمت فيه.
حسين السماهيجي، صوت صعب، ولن أقول رقماً صعباً، في المشهد الشعري البحريني. فالشاعر ليس رقماً، ولن يكون. صعب بمعنى رهانه - الذي كثيراً ما يكسبه - على النص الذي يؤسس لجماليات جديدة فيه، ولغة نابضة بالحيوية، مع وفاء نادر للإيقاع حيناً والوزن حيناً آخر، من دون أن يعني ذلك أنه لم يطرق «قصيدة النثر»، وهو فيها لا يقل براعة عن التفعيلة والقصيدة «العمودية».
«فاقد ومفقود»، وردت المفردتان في لقاء أجرته سجا العبدلي، من بيروت، ونشرته صحيفة «السياسة» الكويتية بتاريخ 4 أغسطس/ آب 2014، في ردِّه على سؤال يتعلق بوصف علاقته بلحظة الكتابة بكل تجلياتها وسحرها أجاب من خلال استعادة كتابة سابقة بعنوان «إحالة إلى الفقد»: «قلتُ حينها: أشبه بالماء الذي ينساب بين أصابعك, فلا تكاد تقبض عليه حتى يفلت من بين يديك, هكذا تكون حالتي مع القصيدة, مريضٌ بها, فاقدٌ ومفقود».
في خريطة ما قرأت من إنجازه الشعري المهم: «ما لم يقله أبوطاهر القرمطي»، «الغربان»، «امرأة أخرى»، «نزوات شرقية»، «يترك لهم أثراً»، تقف على سهر لن تغفله مادمت قارئاً بحساسية وانتباه. سهر على عوالمه واللغة. سهر على الفضاءات التي يقيمها بحرفنة لا تخطئها ذائقة. تلك القدرة على ضبط إيقاع اللغة من جهة، متزامناً مع إيقاع النص الذي ظل وفياً له وتعاطى معه باعتباره ركناً من أركانه.
في «أغنية للضّاحية»، نقف على مثل ذلك الضبط. تنثال المعاني بشكل متدافع، وعليك هنا أن تكون صاحب لياقة من نوع خاص كي تتمكَّن من مجاراتها. نقرأ: «طفلةٌ تَتَمَسَّحُ باللهِ في نَوْمِها، والملائكُ تتلو الكتابَ على مَهْلِها، بين بيتِ الإلهِ وبينَ الضَّفِيْرَةِ هابطَةً صَاعِدَةْ، لنا في القصيدةِ دمعتُنا الباردةْ، وَلَها بينَ «قانا» وبينَ العواصِمِ شَهْقَةُ مريمَ حين أتت بالمسيح، وَخَرَّتْ له سَاجِدَةْ».
في القصيدة العمودية، تلك التي بدأ منها، ولم يكن من بعض جيل حرْفته «حرق المراحل»، من دون أن يتوقف عند مرحلة حتى تنضج، ولوجاً إلى التي بعدها، وفي النهاية، بعض من ذلك الجيل ظل مغترباً في نصه، وغريباً عمَّن حوله. السماهيجي كان يقيم في كل مرحلة حتى يمسك بمفاتيحها، ولوجاً إلى التي تليها. من «العمود» بدأ وتأسس، ولم يكُ مستغرباً أن تجربته في «التفعيلة» كانت مستوية وذات إمكانات ملفتة ومدهشة.
أنا المحسوب على «الحداثة» و«ما بعدها» لا أجد حرجاً في القول، إن انحيازي لنصوص السماهيجي «العمودية» لا يعني إعراضاً عن «التفعيلة» لديه، بقدر ما هو اطمئنان وثقة في أن التجارب الملفتة والمغايرة والمتمكِّنة لم يمسسها سوء، وهي قادرة بانفتاحها على الأشكال والتجارب الجديدة، أن ترسِّخ وفاءها للشكل والتجربة الأولى، وذلك هو ما يفعله السماهيجي بحرفنة وإخلاص لافتيْن. في قصيدته «وَحّدتُ ذاتكِ في ذاتي»، نقرأ: سَمّيْتُكِ الدّمَ دَفّاقًا بِأَوْرِدَتِيْ/ وشاطئ الحُلُمِ المُمْتَدِّ في لُغَتِيْ/ وَصُغْتُ فيكِ جُنُوْنِيْ ألفَ قافيةٍ/ ذبيحةٍ في طفوفِ العَيْنِ والشّفَةِ/ جرى العَرُوْضُ على أطرافِها شَـزَرًا/ فما استقام لها إلاّ على صفتي/ فكنتِ في مفرِقِ التّاريخِ خَصْلَتَهُ/ معقوصةً في الشّظَايَا من مُخَيِّلَتِي/ وارتَدّ منكِ على الأدبارِ هائجُها/ وكان قَبْلَكِ منضودًا بِمِنْسَأَتِيْ/ أنا نَبِيّكِ في معراجِ آيته/ أَخُطّ في اللّوحِ عن جبريلَ مَلْحَمِتِيْ/ شَرِبْتُ منكِ فما أدري... أفي وَرَقِيْ/ عُنْقُوْدُكِ الغَضُّ أم في التّاءِ مَخْمَرَتِيْ؟!
السماهيجي: بعيداً عن الفاقد والمفقود... حضور نبيل يتجسَّد في نص مليء بالشظايا والعناقيد في الوقت نفسه.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5012 - الجمعة 27 مايو 2016م الموافق 20 شعبان 1437هـ
جعفر الجمري مبدع أنت كيفما كتبت
الدكتور حسين السماهيجي شاعر مطبوع يمتلك لغة قوية وخيال واسع وذكاء شعري وتمكن من جميع القصائد على اختلافها ..سيأتي اليوم الذي سوف ندرس فيه قصائده في مناهجنا
الجمري.. السماهيجي.. "لقد حرت أيا من الفتنتين.. أصد سناك أم البرقعا" الجواهري.
جعفر الجمري في قراءة مقالاتك نشوة ادبية تثير الإبداع ... احسنت