كما أن للرحلة «أدباً» فإن لها «ذاكرة»، وذاكرة الرحلة خلافاً لأدبها، قد تضمحل وتبهت شيئاً فشيئاً مع توالي السنين. «الذاكرة» عُرضة للتلاشي التدريجي حتى بلوغ لحظة الانطفاء الأبدي والنسيان التام.
و«آفة التاريخ الرواية» كما يقولون، والتسليم المطلق بجدارة الرواية الشفهية على الصمود أمام طوفان الزمن ليس صحيحاً دائماً حتى بالنسبة لأولئك «المهمّشين» عبر التاريخ، وأولئك الذين يظنون بأن «الذاكرة المقموعة» قادرة على الصمود اعتماداً على انتقالها ردحاً طويلاً عبر الأجيال، والصحيح أن جزءاً كبيراً من تيار الذكريات المتدفق يضعف كلما بعد عن نبعه ومصدره، والأهم أنه لا يعود صافياً كما كان؛ بل تختلط فيه الكثير من الشوائب والزوائد وتداخله الأساطير وتمتزج به المبالغات.
الكلمة المكتوبة قادرة على الصمود أمام وطأة الزمان، وبشعر جعفر الخطي (ت 1618م/ 1028هـ) خلُدت سمكة «السُّبَيطيَّة» من القرن العاشر التي شجّت وجنته وأسالت دماءه مِنْ وجهه وهو يخوض البحر بين «توبلي» و»البلاد القديم» مع ابنه حسان!
لعل أحد أبرز سمات ظاهرة «الهجرة» التي عرفتها البحرين خلال ما يزيد على الأربعة قرون الماضية، أنها لم تُدرس بشكلٍ كافٍ، والمرويات الشفهية الكامنة في صدور ذوي المهاجرين وعارفيهم، أكثر مما هو متوقع، في حين أن حصتها من التوثيق ضئيلة جداً، وكنت ولا أزال معنياً بمتابعة هذا الموضوع في المصادر والمراجع القديمة، لأسباب يرجع بعضه إلى الفضول، وبعضه يرتبط بهوىً قديم بتاريخ الناس وذاكرة المجتمع. وقد وجدتُ معلومة طريفة تتعلق بآل المُتوّج البحرينيين، الذين أصبحوا اليوم يعرفون في العراق بـ «آل فرج الله»، والذين ينحدرون من جدّهم الأعلى الشيخ أحمد بن عبد الله بن محمد بن المتوّج البحراني (ت 1417م/ 820هـ)، المجتهد المشهور بابن المتوّج، والذي كان من تلامذة الشيخ فخر الدين الحلي (ت 1370م/ 771هـ). ولا تزال ذرية هذا الفقيه الكبير تُعرف إلى اليوم بـ»آل فرج الله». يقول جعفر آل محبوبة (ت 1958م/ 1378هـ) عن هذه الأسرة إنها «من أسر العلم المتقدمة في الفضل والسابقة في الهجرة، وهي من الأسر العلمية العربية يرجع نسبها إلى القبيلة المشهورة (بني أسد) وهم من ذرية العلامة الكبير أحد رجال القرن الثامن (14م) الشيخ أحمد ابن المتوج البحراني المعاصر للمقداد السيوري النجفي (صاحب كنز العرفان)، اشتهروا بنسبهم إلى جدهم الشيخ فرج الله ابن الشيخ صالح ابن الشيخ صافي ابن الشيخ عبد النبي ابن الشيخ عبد الإمام ابن الشيخ علي ابن الحسين ابن الشيخ محمد ابن الشيخ أحمد المتوج بالبحراني». ويقول آل محبوبة، وهو من أبرز مؤرخي النجف الأشرف المعاصرين، إن هذا النسب أملاه عليه بعض رجال هذه الأسرة البحرينية المغتربة قبل أربعة قرون.
لا أعرف بالضبط ما هو الشعور الذي يملأ جوانح أفراد أسرة آل المتوج «العراقيين الآن» تجاه البحرين، لكنني متيقن أن لسان حالهم قد صوّره قبلئذٍ شاعر الخليج الشيخ الخطي، حينما أنشد وهو في شيراز وقد هَدّه وشَدّه الحنين نحو البحرين فقال:
لاَ تَحْسَب البحرينُ أنِّي بعدها
مُستَوطِنٌ داراً ولا أصحابا
ما أصبحتْ شيرازُ وهي حبيبةٌ
عندي بأبهجَ من أوال جَنَابَا
ولعلّ من المفيد هنا أن نشير إلى ما أثاره الناقد البحريني نادر كاظم في كتابه «استعمالات الذاكرة»، من وجود نسق معين تسير عليه ذاكرة البشر، وتبدأ بالتذكر، ثم النسيان، ثم انتعاش الذاكرة من جديد، وهو ذاته «قانون الأجيال» الذي صاغه في العام 1937 (ماركوس لي هانسن)، أحد مؤرّخي الهجرة، وأسماه «مبدأ اهتمامات الجيل الثالث». وبحسب هانسن، فإن الجيل الأول من المهاجرين المثقلين بهموم مادية، يبدون اهتماماً قليلاً بثقافة العالم القديم الذي جاءوا منه، وفي المقابل يتبنى الأبناء والبنات سياسات النسيان. أما الجيل الذي يكون مدفوعاً برغبة قوية لتذكر جذوره وتاريخه بفخار فهو الجيل الثالث، وهذا الجيل هو الذي «يغذّي بعث الهوية الثقافية» من جديد.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5001 - الإثنين 16 مايو 2016م الموافق 09 شعبان 1437هـ