قرأت في صفحة صديق على الفيسبوك أن أستاذه نصحه: «لا تبحث عن التقدير الاجتماعي». فأعجبتني النصيحة وشكرتُ الصديق الناقل. والعبارة أعلاه تشير إلى ما قد يقع فيه البعض منا من تداخل واضطراب بين الأهداف الشخصية، وما قد يلقاه من مجتمعه من تنكر للجهود أو جحود للمكانة. وهي نصيحة قيّمة، وتناسب مقاس المجتمعات الشرقية عموماً.
وقد تأملتُ في أحوال المجتمع والناس، ووجدتُ أنهم بين راغبٍ في العزلة الاجتماعية والانزواء عن الناس، وبين «منفتح» على المجتمع أقصى درجات الانفتاح إلى درجة الذوبان الذي قد تغيب معه الفواصل والحدود المفترضة بين الحياة الخاصة والشأن العام.
وكما أن هناك أفراداً «منعزلون» لا قيمة حقيقة لهم في الحياة، فإن هناك أيضاً أفراداً يعيشون في الهواء الطلق لكنهم ليسوا سوى «زيادة عدد» فاقد القيمة ضئيل الشأن.
ولقد كان عباس محمود العقاد (ت 1964م) حين يتحدث عن الزعيم سعد زغلول يقول: عندما خلقه الله قال له: «اذهب فأنت غابة بأكملها، وباقي الناس أعشاب بشرية! وعلى ما في مقولة العقاد من تعالٍ وغلو، إلا أن فكرته عن «الزعامة» والشخصيات الاستثنائية فيها قدر من الصحة.
وفي الواقع، فإن هذه الفئة ورد لها ذكر في «نهج البلاغة» على لسان الإمام علي (ع) حين تحدّث عن فئةٍ طفيليةٍ في المجتمع وصفها بالـ»هَمَجٌ» وهم الحمقى، والـ»رَعَاع» الذين لا منزلة لهم في الناس، فهم «أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِق... يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيح»، وقد جعل الإمام علي هذه الفئة في مقابل الفئة الواعية والمتعلمة من المجتمع.
وكان أنيس منصور (ت 2011م) يقول: «هناك أنواع من الناس مثل الزائدة الدودية.. أنهم زائدون فقط، أي زائدون عن الحاجة. موجودون هناك دون ضرورة كالإصبع السادسة في بعض الأيدي».
وكما أن هناك كتباً لها ملاحق هناك أيضاً أناس لهم ملاحق، أي أناس يضافون إلى أناس. وقيمة الإنسان تكمن فيما يقدّمه للحياة، يقدّمه للحياة من إضافةٍ وقيمة، ثم بعد ذلك لا يهم أين يكون. والشخصيات الناجحة هي دائماً من تتقن فن قياس وتوقيت المسافة بينها وبين الآخرين. والشخصيات المنتجة والمبدعة لابد أن تنعزل بعض الوقت ليتوفر لها صفاء الذهن، وتفكّر وتبدع ثم تتواجد في قلب المجتمع لتقدم وتعطي.
أما الارتماء الأبله في أحضان المجتمع تنازل طوعي عن إنسانية المرء وحريته؛ كما أن «العزلة» التامة عن الناس سلوك لطريقٍ وعر يقود إلى الفشل الاجتماعي، والسقوط في براثن الاكتئاب واعتلال المزاج والاغتراب عن الحياة والطبع البشري.
وهناك نصوص مأثورة من تراثنا الإسلامي، تؤيد هذا الخيار الوسطي في التعامل مع الناس ومخالطتهم، يقول أحدها: «كن مع الناس ولا تكن معهم»، فهي دعوةٌ حذرةٌ للمخالطة، والإنسان الكيّس الفطن يشارك الناس أفراحهم وأحزانهم، يتأثر بآلامهم وآمالهم، كل ذلك دون ما استلاب، ودون أن تبتلعه مشاكل المجتمع في دوامتها الضيقة، ومعاركه التي قد تكون «خاطئة» بعض الأحيان وربما أغلبها.
وفي التراث الصوفي تبجيلٌ ودعوةٌ مُلحةٌ للعزلة، وقال بعض العرفاء: العزلة هي اعتزال الخصال المذمومة، لا الانقطاع عن الإخوان والتنائي عن الأوطان، فلهذا قيل أن العارف: «كائن بائن» أي كائن مع الخلق، بائن عنهم بالسرّ.
هذا عند الصوفية، لكننا لسنا من الصوفية وأغلب الناس ليسوا كذلك، وإن كان للعزلة دعاة وأنصار، كما أن للانفتاح المطلق متحمسين له وراغبين فيه، وخير الأمور أوسطها، فلا إفراط ولا تفريط.
والعقلاء إنّما يختارون العزلة لفوائدها الجمّة، وقد علموا أنّ المعاشرة مع النماذج الخيرة من البشر، أفضل من الوحدة والانفراد والعزلة، وقد ورد في وصية الرسول (ص) لأبي ذر الغفاري: «يا أبا ذر، الجليس الصالح خيرٌ من الوحدة، والوحدة خيرٌ من جليس السوء».
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4994 - الإثنين 09 مايو 2016م الموافق 02 شعبان 1437هـ
احسنت يرحم الله والديك
مساكم الله بالخير ياكتاب الوسط المعتمدون واللذين يتحفونا ببعض الاطلالات بين الحين والاخر .. يبقى الفضل لله ولراس الهرم الدكتور منصور الجمري والسيد قاسم حسين والبقية الكريمه تاتي .. ابداع وحرفنه ومواضيع متنوعه تجذبنا للقراءه والمتابعه .. كلمة شكر قليله بحقكم ....