عندما قرر قائد الثورة الاسلامية الايرانية ومؤسسها في العام 1979 نقل حال «الثورة» الى حال «الدولة» مبكرا من خلال «مأسسة» النظام السياسي الجديد بواسطة نظام الانتخابات، قال كلمته الشهيرة: «رأي الشعب هو المعيار» ما يعني أن كلمة الفصل في شكل الدولة وهيكليتها لصناديق الاقتراع. وهكذا أخذ مجلس الشورى الإسلامي - ما يوازي البرلمان - وزنه وثقله ودوره الخاص في تحديد ملامح الدولة الايرانية المعاصرة.
لكن الإمام الخميني الذي عجنته التجارب والمعاناة من جهة وحسه الفطري العميق اشارا عليه بضرورة وضع «ناظر» على العملية الانتخابية بما يمنع تحول المجالس البرلمانية الى أدوات بيد السلطات التنفيذية المتعاقبة كما هو الحال في الكثير من الأنظمة البرلمانية الملكية والجمهورية. فكان مجلس صيانة الدستور الذي أخذ دوره ووزنه ولايزال من كونه «الناظر» المفترض المحايد حزبيا وسياسيا على مجمل العملية الانتخابية بما يحفظ «إسلامية» النظام و«قانونية» العملية الانتخابية طبقا لبنود القانون الأساسي للدولة.
لكن القائد المؤسس لم يكن يخطر بباله يوما أن تتواجه هاتان المؤسستان كما هما عليه اليوم في إطار استقطاب حاد خطير الأبعاد، وهو المشهور عنه بكلمته المعروفة: «أريد جمهورية اسلامية لا كلمة زائدة ولا كلمة ناقصة». أي لا تغليب لركن على آخر في ظل إطار يجمعهما بقدر وميزان.
ما يحصل اليوم من مواجهة بين الأكثرية البرلمانية الممنوعة من الترشيح مجددا ومجلس صيانة الدستور المتهم بممارسة سياسة الإقصاء في جوهرها تقوم على الآتي:
بينما تتهم هذه الأكثرية جماعة مجلس صيانة الدستور بالسعي الحثيث الى استئصال الركن الجمهوري في الدولة، لعدم ايمانها أصلا بمقولة صناديق الاقتراع!
فإن جماعة المجلس الدستوري تتهم من أقصتهم عن الترشيح من البرلمانيين بأنهم انما يعملون حثيثا لاستئصال الركن الاسلامي في الدولة لعدم إيمانهم اصلا بمقولة الجمع بين الدين والدولة!
في هذه الاثناء فان «ترويكا» توافقية تشكل عصب هيكلية الدولة تتألف من آية الله علي خامنئي والرئيس محمد خاتمي ورئيس البرلمان مهدي كروبي ومعهم من بات يشكل «بيضة القبان» منذ تبوئه منصب رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام المناط به أصلا شأن فض النزاعات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور، يبذلون قصارى جهدهم لاقناع «الجناحين» المتخاصمين - اذا جاز التعبير - بالعدول عن نظرية «المؤامرة» والاحتكام الى روح القانون الاساسي وليس الى تفسيرات مطاطة قابلة للذهاب الى حد اتهام كل طرف للآخر بأنه يعِدُّ «لانقلاب أبيض» يقضي به على الآخر ويخرجه نهائيا من مطبخ صناعة القرار كما يروج في دوائر متشددي الجناحين.
لكن ثمة من يقول هنا ان اصرار مجلس صيانة الدستور على البقاء في مواقفه الحالية تجاه من أقصاهم من الترشيح بتهمة «عدم التزامهم عمليا بالاسلام وولاية الفقيه» انما يشكل سابقة خطيرة. في تاريخ التعامل السياسي بين تكتلي المحافظين والاصلاحيين بما قد يؤدي الى شرخ فكري وسياسي كبير هذه المرة يصعب ترميمه وقد يؤدي الى تهديد الركن الجمهوري في الدولة ويمهد مستقبلا لخطر قيام «دولة الاستبداد» أو اعادة انتاج الديكتاتورية كما يقول رموز الاكثرية البرلمانية المعرضة للاقصاء.
في المقابل فان آخرين يميلون الى نهج المدرسة المحافظة يقولون إن «اي تنازل أو مساومة» قد يضطر اليها مجلس صيانة الدستور «في هذه المعركة المصيرية» كما يسمونها قد يعرض البلاد لخطر فتح الباب واسعا للتدخل الاجنبي، ذلك ان الاكثرية الاصلاحية البرلمانية الحالية اذا ما منحت فرصة السماح للترشح مجددا فانها قد تتجرأ أكثر من السابق في ممارسة سياسة الاستقواء بالخارج على الداخل كما يقول متشددو المحافظين.
يبقى الرئيس محمد خاتمي هنا أكثر الناس وقوعا في الحرج والعسر في هذه المعركة الاستقطابية المستعرة، فخاتمي الذي صعد الى سدة الرئاسة قبل نحو سبعة أعوام تحت شعار رئيسي عنوانه مجازا: «المصالحة بين الدين والديمقراطية» يرى نفسه اليوم المرشح الوحيد ربما لخوض معركة اصلاحات «جذرية» يطالبه بها حواريوه ورفاقه، وهو غير قادر على حمل أعبائها بعد كل الذي ذاقه من متطرفي الجناحين ناهيك عن عدم ايمانه بصواب كامل فصولها.
لكنه ايضا المرشح الأوفر حظا وان لم يكن الوحيد لقيادة عملية اصلاح أساسية داخل جبهة الاصلاح «المخترقة» في أكثر من موقع في محاولة لانقاذ ما تبقى من مشروعه العقلاني والناجع في مجال حل الاستقطابات الداخلية أي «المصالحة بين الدين والديمقراطية». وهي المهمة التي يبدو ان خاتمي عازف عنها في هذه الايام التي يعدها بفارغ الصبر ليعود مجددا الى أخذ مقعده في «اتوبوس الشعب» كما يردد في مجالسه الخاصة.
وحدة الوجدان الشعبي العام يبدو الأكثر عقلانية ومرونة في التعامل مع هذا الحدث الكبير، فهو يعتبره مهما كان جللا وخطيرا ومهما لا يتجاوز اكثر من ميدان المعارك على مسرح الهرم السلطوي، وأي من الجناحين أو غيرهما ممن يريدون الاحتكام للشعب أو يهمهم أمرهم فعلا ليس أمامه سوى «النزول» الى حاجات الشعب الحقيقية المتمثلة بشكل رئيسي في الرزق اليومي و«الخبز» اليومي الآخر وهو الحريات الاجتماعية العامة اي الاقتصاد وخيارات الحريات العامة، وما داما متوافرين بشكل نسبي فإن انخراط «جمهور» الرأي العام في المعركة البرلمانية والانتخابية لن يكون كبيرا ما يجعل المعركة الجارية حاليا مهما تصاعدت ستظل محددة على مسرح الهرم السلطوي ولن تترك آثارا خطيرة أو كبيرة على حياة العامة من الناس.
فهل تعي نخب الاصلاح والمحافظة حقيقة الوجدان الشعبي؟
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 499 - السبت 17 يناير 2004م الموافق 24 ذي القعدة 1424هـ