عندما حطّت الطائرة المصرية المخطوفة في مطار لارنكا، كنت في المدينة، وعلى وشك مغادرة الفندق عائداً للكويت عبر مطار لارنكا، لكن عاملة الفندق أعلمتني بما وقع قائلة: «لقد تم غلق المطار ولن يتم فتحه قبل حلّ الإشكال».
بعد انتظار قلق قررت أخذ جولة في المدينة التي تنتشر فيها المقاهي الصغيرة، لكن حيثما وصلت قدماي حول الفندق وجدت تلفزات المقاهي وقد تحوّلت لمتابعة أخبار الخاطف الذي لا يبدو ككل الخاطفين من شكله، وعمره، وإعلانه عن حب مفقود من زواج سابق. لقد حضر الشرق العربي في قبرص عبر قصة خطف بدت غريبة. فراكبٌ مخطوفٌ يتصوّر سيلفي مع الخاطف، والخاطف يبدو مرناً للغاية بدليل إطلاق سراح الكثير من الرهائن دون مفاوضات جادة!
لم يكن الخطف سياسياً، لكن كل حدث في الشرق، حتى لو كان أمطاراً في صيف حار، يصعب فصلها عن السياسة. لهذا ارتبط الخطف، وفق المعلقين القبارصة، برغبة العرب في الهجرة للغرب وبإجراءات مطارات مصر وسقوط الطائرة الروسية قبل أسابيع. وقبل أن تتضح الصورة، أعلنت روسيا بصورة أحادية أنها لن تعيد الطيران إلى مصر في المرحلة الراهنة.
وعلى رغم كثرة العرب، كحال الخاطف، الذين يسعون للوصول للغرب بأي ثمن، هناك عدد من العرب ممن ولدوا في الغرب يمارسون اليوم هجرة معاكسة لتلك التي عبر عنها الخاطف. هؤلاء الشبان العرب من أحفاد من هاجر للغرب ولأوروبا ولفرنسا وبلجيكا يسعون للانضمام لـ»داعش». فطبيعة القضايا التي تنتشر في الشرق في ظل الايديولوجيا الإقصائية الرسمية والشعبية، لا يمكن إلا أن تؤثّر على شبان مسلمين وعرب في كل العالم، بما فيها في المجتمعات الغربية. فنحن نرسل خاطفينا والمهمّشين منا والمنتهكة حقوقهم للغرب كمهاجرين وكطالبي لجوء سياسي، وعندما يفشل الغرب في استيعابهم ويتحوّل قطاعٌ منهم إلى حالة بؤس وتهميش يعودون إلينا بعد جيل ليقاتلوا فئاتٍ لا يعرفونها.
قرّرت أن أعود من قبرص بأي طريقة، فعلى رغم إلغاء رحلتي المقررة من مطار لارنكا في ذلك الثلثاء المخطوف، كان يجب أن أعود للقيام بالتزاماتي التدريسية في اليوم التالي في جامعة الكويت، فما كان مني إلا أن اكتشفت طريقاً آخر يسمح لي بتجاوز عائق المطار المغلق في لارنكا. وجدت قرب نيقوسيا مطاراً صغيراً، لكنه يقع في المناطق التركية من قبرص، والتي يسكن فيها قرابة 300 ألف مواطن قبرصي تركي. تلك المنطقة سبق لتركيا أن احتلتها من خلال اجتياح عسكري في العام 1974، لقد أصبحت تلك المناطق دولةً مستقلةً لا تعترف بها إلا تركيا.
لقد سارت المركبة عابرة للمناطق اليونانية من قبرص حيث عدد سكانها 700 ألف إلى أن وصلنا لحاجز كبير (المنطقة الخضراء)، يفصل المنطقتين على شكل معبر. لم ننزل من المركبة، ومررنا بسهولة للجانب التركي، أي إلى المناطق التي وقعت حولها حرب والتي تمثل ثلث قبرص. الكثير من القبارصة الأتراك في المناطق اليونانية التي لم تحتل هجروا من منازلهم (بحدود 60 ألفاً)، والعكس صحيحٌ بالنسبة للقبارصة اليونانيين في الجزء المحتل (هجر أكثر من 150 ألفاً) للمناطق اليونانية من قبرص. في الحالتين مررت بمناطق حدودية يشعر كل طرف فيها أنه خسر حقوقه ومسكنه، فسائق التاكسي القبرصي اليوناني أراني في الطريق منزله الذي أخذ منه في المناطق التركية، لكنه إنصافاً أراني في الطريق المناطق اليونانية ومنازل لمسلمين قبارصة أصبحت ملكاً ليونانيين.
في قبرص وجهٌ آخر لانقسام الهوية الذي لازال قائماً ليومنا هذا. لقد تحوّل خطف الطائرة المصرية على بساطته، إلى تعبيرٍ عن عمق المشكلات والمخاوف وانشطار النفوس الذي يدور في الشرق الأوسط، ومن تابع تعليقات المصريين بشأن الخطف وقصة اللجوء السياسي لوجد ذلك الكم الهائل من السخرية التي تحتقن بها نفوس المواطنين العرب والمصريين من كل ما يحيط بهم.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4962 - الخميس 07 أبريل 2016م الموافق 29 جمادى الآخرة 1437هـ