بذل الأكاديمي محمد حميد السلمان جهوداً مضنية ووقتاً ليس بالقليل في سبيل جمع الوثائق والمعلومات المتعلقة بحياة وجيه قرية السنابس والبحرين الحاج أحمد بن خميس (1855 – 1940) والتي انتهى إلى وضعها في كتابٍ أودع فيه خلاصة المادة التي جمعها من الوثائق القديمة والشهادات الشفاهية المتواترة عن حياة «أيقونة زمن اللؤلؤ» كما أحبّ السلمان أن يطلق عليه.
أعرف السلمان باحثاً كفوءاً في تاريخ المرحلة البرتغالية في المنطقة، نالت مشاركاته الخارجية في المؤتمرات استحسان الأوساط الأكاديمية والعلمية، وقد كان لي شرف مشاركته في بعضها. ما يكتبه السلمان جميل، لكن ما يلقيه أمام الجمهور أكثر من رائع، ذلك لأنه يضيف إليه – علاوةً على جِدّة المعلومات – حيوية الأداء وجمال الإلقاء، واستعراضها بشكل مقنع فيه من الإثارة والتشويق ما يجعله ينفذ إلى القلوب والعقول.
هذا ما ظهرت عليه فعالية حسينية أحمد بن خميس التي ألقى فيها السلمان محاضرته القيّمة قبل بضعة أيام بشأن شخصية المؤسس. وسأستأذن القارئ في اختيار جوانب مما طرحه المحاضر في الفعالية المذكورة.
حكاية بن خميس تبدأ من قرية سترة الوادعة الآمنة، وهي موطن آل خميس الأول هو وعشيرته التي تنتسب، على قول، إلى قبيلة ربيعة العريقة في شبه الجزيرة العربية.
وقد امتهن أفراد أسرته عدة حِرف ارتبط معظمها بالبحر، كالغوص وصيد السمك، وصناعة وإصلاح السفن، والحدادة. وتفرّد هو من بينهم بمهنة تجارة اللؤلؤ.
استوطن جدّ العائلة الأكبر خميس بن أحمد بن علي آل خميس - بعد الهجرة من جزيرة سترة- أرض السنابس حتى ولادة صاحب السيرة: أحمد بن علي بن خميس بن أحمد بن علي آل خميس، في نحو العام 1855، على أقرب التقديرات.
بدأ أحمد العمل أولاً في تجارة اللؤلؤ، وأصاب منها ثروة كبيرة، لم يكن مجرد طواش عادي. فقد كان يمتلك سفينة كبيرة من نوع «الداو» أو «الدهو»، ومراكب صغيرة أخرى كانت ترسو في بندر السنابس، و»نقعة» السفن الخاصة في تلك المنطقة وهي «نقعة بن خميس».
لم يزاول مهنة شراء محصول اللؤلؤ من البحرين وبيعه على كبار التجار من داخل وخارج البحرين فحسب؛ بل وسّع تجارته منذ البداية بشراء اللؤلؤ من المنطقة الشرقية في شبه الجزيرة العربية.
كان أحمد بن خميس مع شريكه سيد أحمد بن سيد علوي، يعتبران من أثرياء اللؤلؤ في منطقتيهما في سنوات ذاك الزمان. وكانا يبيعان اللؤلؤ في الهند، أو للتاجر الفرنسي المشهور فيكتور روزنثال، أو لصاحب شركة (Cartier). وبسبب الصفقات الكبيرة التي كان يعقدها مع كبار تجار الجملة في أسواق اللؤلؤ؛ فقد ربح بن خميس من عمله في هذه التجارة مبلغ (2 لك) روبية (200 ألف روبية هندية) كما يقول بنفسه عام 1920، وبأن هذا المبلغ هو كل ربحه في هذه التجارة آنذاك.
قام أحمد بن خميس بأعمال خيرية عديدة، منها تأسيس حسينية بن خميس في مسقط رأسه السنابس، بالإضافة إلى بناء أو المساهمة في تعمير بعض الحسينيات والمساجد في البحرين، وتاروت، ودبي. وقام بشراء قطعة أرض، شيّد عليها الحسينية التي عُرفت منذ تأسيسها في ذات الموقع بـ»مأتم بن خميس»، وكان ذلك، بحسب الرواية الشفاهية، في العام 1877م/ 1294هـ.
وفي نهاية العقد الأول من القرن العشرين، وبعد أن توافرت الأموال السائلة في يد بن خميس من تجارة اللؤلؤ؛ قرّر مؤسسها إعادة بناء الحسينية، وهو ما تشير له الأبيات الشعرية التي ألقيت في افتتاح المبنى الجديد العام 1912 والتي جاء فيها:
آل خميس نعم ما قد شيّدوا
مأتمــاً لــلآل فيهـا تُنشـد ُ
إلى أن تنتهي القصيدة بالبيت التالي:
فمـأتمٌ قد شـاد في تأريخِـهِ
(دارٌ لفخـرٍ قـد بـناها أحمدُ).
ويتضمن الشطر الأخير من القصيدة، تاريخ تجديد الحسينية بحسب الجمل والذي يعادل العام 1912م/ 1331هـ.
ولقد كان بن خميس على رأس المطالبين بالإصلاحات في مجال التعليم في البلد، والدعوة لافتتاح مدارس في قرى البحرين، تلك المحاولات التي لم تكن في وقتها تلق آذاناً صاغيةً. ولم ييأس بن خميس، فتواصل مع المعتمد السياسي الرائد ديلي، الذي اعتاد أن يتردّد على الحسينية ويستمع إلى بن خميس وغيره من وجهاء الطائفة. وجرت بعدها مكاتباتٌ تحريريةٌ من أجل هذا الشأن التربوي، منها تلك التي كُتبت في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1923، وقُدّمت كعريضة شعبية تتضمن عدة مطالب «التماسات»، وكان هو على رأس الموقعين من أعيان البلاد على هذه العريضة، وأُطلق عليها في المراسلات البريطانية آنذاك بـ»عريضة السبعة»، وكان أهمها الالتماس «التاسع»، حيث طالبوا فيه بإنشاء المدارس لأبناء وبنات البحرين دون تمييز.
تحقّق طموح بن خميس وتم إنشاء المدرسة بجهود أهلية، وتقرّر تسميتها باسم «المدرسة المباركة العلوية»، وقد تكوّنت أول هيئة تأسيسية إدارية لإنشاء المدرسة من ثمان شخصيات وطنية في مقدمتهم الحاج بن خميس.
لقد تبوّأ بن خميس مكانةً عاليةً في الواقع الاجتماعي والسياسي، وما علاقته مع المعتمد السياسي البريطاني هارولد ديكسون، عبر قصة «دانة بن خميس» المشهورة العام 1920، واستضافته في مبنى المعتمدية لعدة أيام، إلا دليلاً على مكانته، وكذلك علاقته مع المعتمد الثاني وهو الرائد كلايف ديلي ومناقشاته الدائمة معه بخصوص الإصلاحات في البلاد. أضف إلى ذلك، أن بن خميس كان ممن يُستشارون في الكثير من الأمور، ويُعتمد توقيعهم حتى في شؤون مستشار الحكومة تشارلز بلغريف منذ العام 1926.
احتفظ بن خميس بعلاقةٍ وطيدةٍ مع القاضي الشيخ علي بن حسن آل موسى الذي قدم من القطيف، وأصبح قاضياً للقضاء الجعفري في السنابس والمنامة في الفترة من العام 1927 حتى العام 1940، بمشورة وترشيح بن خميس نفسه. وذلك بعد أن طلب منه المستشار بلغريف أن يرشّح له قاضياً له سيرة طيبة ليتولى أمور القضاء في السنابس وبقية القرى، ضمن حركة إصلاح وتنظيم القضاء في البحرين آنذاك.
أدّى تدهور تجارة اللؤلؤ في عموم الخليج بداية الثلاثينيات من القرن العشرين إلى ضرر فادح مُني به الطواويش (تجار اللؤلؤ)، ومنهم بالطبع أحمد بن خميس، وهو ضررٌ كان من الصعب جبرانه، ومما فاقم من محنة بن خميس خديعة تعرّض لها من سمسار اللؤلؤ الهندي «ناريّن»، عندما أعطاه لؤلؤاً يساوى عشرات الآلاف من الروبيات ليبيعه في أسواق الهند، لكن ذاك السمسار المخادع فرّ باللؤلؤ والأموال في الفترة بين عامي 1927-1928، ما أدّى إلى تعرّضه لنكسة نفسية ومرضية طويلة استمرت 12 سنةً، حسب وثائق المحكمة التي تولت متابعة ديون بن خميس بعد رحيله في أغسطس/ آب 1940.
شكراً محمد السلمان على هذا الجهد التوثيقي الجميل بشأن واحدٍ من أبرز رجالات الوطن، وأتمنى أن تحرّض هذه التجربة آخرين على اقتفاء أثرها بشأن شخصيات أخرى تحتشد بهم الذاكرة الوطنية.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4959 - الإثنين 04 أبريل 2016م الموافق 26 جمادى الآخرة 1437هـ
شكرا
شكرا للكاتب الاستاذ. وللمحاضر والباحث. ورحمه علبك يابن خميس ايها الرجل الشهم الشريف الاصيل الذي قل نظيره في هذا البلد وهدا الزمن