(الجزء الثاني من كلمة الرئيس التنفيذي لبنك البحرين والكويت عبدالكريم بوجيري في حفل أقيم في فندق «فور سيزونس» في 16 مارس 2016 بمناسبة تقاعده)
لقد كان أول عمل لي في مجال البنوك في عام 1978 فيما كان يسمى حينذاك البنك السعودي والذي تغير اسمه لاحقاً إلى البنك الفرنسي الشرقي، عملت هناك كمتدرب تنفيذي لمدة عامين كان سعر الفائدة على الدولار عندها 22 في المئة سنوياً، ولكن من ذلك الحين اختفت العديد من المصارف العملاقة كـ Chemical Bank و Irving Trust وSalomon Brothers وخلافهم بالآلاف... ولكننا ها نحن اليوم في بنك البحرين والكويت نقف أشد صلابة رغم مرور البنك بالعديد من الأزمات العاصفة بدءاً من أزمة سوق المناخ مروراً بالحرب العراقية الإيرانية وأزمة اجتياح الكويت من قبل العراق وصولاً إلى أزمة الرهن العقاري والتي صنفت كأعمق أزمة مالية منذ أزمة الكساد الأكبر في العام 1929، وحالياً مع أزمة هبوط أسعار النفط، ومع كل أزمة نتعلم دروساً وعبراً جديدة ساهمت في تقوية عودنا حتى أصبحنا مرنين جداً في التعامل مع الأزمات مهما كانت شدتها أو نوعها.
لعل من أهم الدروس التي تعلمتها خلال 40 سنة الماضية هو ضرورة الدراسة الجيدة والتحضير العميق لأي أمر مهما كان صغيراً، فكما يقال أن عظيم النار قد تأتي من مستصغر الشرر، وفي هذا الموضوع لدي قصتين قصيرتين أود أن أشارككم بهما:
في ثاني أيام التحاقي ببنك البحرين والكويت دعيت لحضور اجتماع الديون المتعثرة وكان يرأس ذاك الاجتماع حينئذ الاستاذ مراد علي مراد، وأثناء المداولات خلال الاجتماع توجه إلي الرئيس بأسئلة عن بعض الامور المتعلقة بالديون التي كانت ستصبح تحت مسئوليتي، لم أكن محضراً للاجتماع فما استطعت الاجابة متعللاً بأنه لم يمضِ على تواجدي في البنك أكثر من يومين، ولكن في قرارة نفسي كنت أعلم أن السبب هو عدم التحضير لذاك الاجتماع.
والقصة الأخرى هي أنني لما كنت أعمل بالبنك السعودي بدائرة الاعتمادات المستندية وصلتني برقية باللغة الانجليزية لم أعي مضمونها كون اللغة لدي حينذاك متواضعة جداً، وكان رئيس الدائرة السيد أدولفوس فرناندس في إجازة سنوية ومساعدته السيدة شانتا في إجازة مرضية في ذلك اليوم وكان يوم خميس، ولجهلي بمحتواها ركنت البرقية جانباً لحين عودة السيدة شانتا من إجازتها المرضية. وعندما عدنا الى العمل في يوم السبت وجدت أمين الخزانة يخرج من غرفة التداول صائحاً بأن حسابنا في نيويورك قد انكشف بمبلغ 5 مليون دولار وكان الجزاء مكلفاً جداً حيث كان سعر الفائدة آنذاك يفوق الـ 22 في المئة، فاستنفر كل من يعمل بالبنك لمعرفة السبب ولكن دون جدوى، وعندما افتتح بنكنا المراسل بنيويورك أبوابه يوم الاثنين تم الاستفسار منهم عن السبب وعلم البنك بأن السبب هو حل موعد دفع اعتماد مستندي تم خصمه من حسابنا وبأنهم أوعزوا لنا بالأمر عبر برقية معنونة الى السيد فرناندس. وبالبحث عن تلك البرقية وجدوها قابعة في صندوق الأمور المعلقة فوق درج مكتبي، فاستدعاني مساعد المدير العام بمكتبه ليوبخني توبيخاً شديداً واصفني بالغباء. والدرس الذي كان مساعد المدير العام يريد ان يعلمني إياه هو عدم إهمال أي موضوع أو أخذه ببساطة وأنه عندما لا تعي أمراً ما فإما أن تدرسه حتى تفقهه أو ترده الى أصحاب الشأن حتى يتخذوا فيه القرار المناسب، ولكن شاءت الصدف أن يتكرر الموضوع بعد شهرين ولكن البرقية هذه المرة كانت مرسلة الى مساعد المدير العام والذي كان على أهبة السفر إلى السعودية في رحلة عمل. لقد كانت الرحلة لمدة أسبوع تقريباً وكانت البرقية تشعرنا بخصم ضعف المبلغ السابق من حسابنا بسبب أن أحد الاعتمادات المستندية قد حل وقت دفعها. استلم البرقية مساعد المدير العام وأكد استلامها بالتوقيع في دفتر المراسلات. وبعد البحث والتقصي أدركت بأن المساعد قد أهمل البرقية وأودعها صندوق الداخل (In Tray) الخاص به داخل مكتبه وأقفل الباب وراءه من دون اتخاذ أي اجراء حيالها مما سبب للبنك خسارة فادحة. طبعا عندما عرفت بأنه هو السبب وراء الخسارة هذه المرة استجمعت قواي وكل شجاعتي وذهبت له في مكتبه قائلاً له حرفياً: إن الغبي ليس من هو متدرب جديد مثلي لا يستطيع فك اللغة، ولكن الغبي هو من مثلك الذين يعتبرون خبراء ومسئولين في مثل هذا الشأن. فاستشاط غضباً واقسم بالعمل على اقالتي من البنك. حقيقة لم أكن لأتجرأ على فعل ما فعلت، ولكن ما شد من أزري هو انني كنت سأقدم استقالتي في نفس ذلك اليوم لحصولي على وظيفة جديدة ببنك الخليج الدولي براتب يزيد عن راتبي في البنك السعودي بمبلغ 35 ديناراً.
لقد علمتني تلك القصتين درساً عميقاً بوجوب وأهمية معرفة كل تفاصيل الأمور مهما بدت غير مهمة وأن لا نتركها للصدف أو الى أن يأتي من يأخذ بها، ومنذ ذاك الحين وانا أحرص أشد الحرص على الاستعداد التام لكل الأمور مهما كانت صغيرة.
لقد عملت بهذا البنك الكريم قرابة 15 عاما كانت كلها بدون استثناء سنون مباركة سعدت بل شغفت بالعمل فيها أيما سعادة وأيما شغف سيّما أنني كنت محاطا بمجلس إدارة قدم كل الدعم لي وبزملاء عمل كالأخوات والأخوة لي، يخافون علي وليس مني، شددت بهم عزمي وبأسي عند الحاجة وخاصة في تلك الأعوام العصيبة وحافظوا بل وجاهدوا في سبيل أن تكون هامتي عالية ورأسي مرفوعاً أمام كل أصحاب المصلحة في البنك، لطالما قلت سابقا وهنا أعيد وأكرر وأؤكد بأن الطاقات البشرية في البنك هي أهم أصولنا ولولاهم ما ارتفع اسم البنك عاليا وحافظ على ريادته في السوق البحريني، لقد أحببت كل الموظفين من أعماق قلبي وبكامل كياني واليوم أحتسب بأنهم جميعهم أحبوني بإذن الله لا كرئيس تنفيذي لهم ولكن كاخ أكبر لبعضهم وكأب للبعض الآخر.
لقد كانت 15 سنة ممتعة حقا رغم ضغوطها وآلامها، فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً الذي مكنني من الوصول الى مثل هذا النجاح وهذا حتما سيضع عبئا على البنك في قادم الأيام، ولكن ليس عندي أدنى شك بأن إدارة البنك بقيادة أخي العزيز رياض ساتر ستنجح بإذن الله في إعلاء اسم البنك والمحافظة عليه، بل وتطوير ما تم إنجازه خلال فترة عملي في البنك.
إن أسباب هذا النجاح لا يمكن بأي حال من الأحوال نسبها إليّ منفرداً، لذا أستميحكم عذرا في هذا المقام بأن أوجه شكر خاص ومن أعماق القلب الى ستة كان لهم الفضل في نجاحي هذا، أولئك كانوا دائما عزوتي ومظلتي حين الفرح، والأهم حين الحزن والألم، وقبل أولئك الستة جميعا يأتي خالقي وربي جل جلاله على نعمه وعطاءه لي، فالحمد لله والشكر له، هؤلاء الستة هم:
أولا: أعضاء مجلس إدارة بنك البحرين والكويت بقيادة رئيسها السيد مراد علي مراد والذين قدموا كل الدعم المطلوب لي في الوقت المطلوب.
ثانياً: أمي رحمها الله والتي غادرت دنيانا هذه قبل حوالي 4 شهور، فمنها تعلمت الحب والحنان والوئام، وعلى يديها المجعدتين تعلمت منها الحروف، وبخوفها على من تحب تعلمت منها معنى الاهتمام والطيبة والنجاح، ومن بعدها أبي ووالدي الغالي رعاه الله وأطال في عمره، وأتشرف بتواجده بيننا هنا هذه الليلة لأضعه تاجاً على رأسي فهو مثلي الأعلى ومصدر إلهامي في الجد والكفاح والالتزام والانضباط والاخلاص، فمنه تعلمت كل أركان النجاح الأساسية ومنه تعلمت فن أن لا أتكلم أكثر مما أعمل ومع انه لم يدرس الأدب، إلا أنه علمني الأخلاق والأدب، ومن بعدهم ولعلها أهمهم شريكة حياتي سندي وعضدي ورفيقة دربي في السراء والضراء، المصغية لهمومي دائماًُ وما أكثرها، كنز أسراري، ومن وقفت معي في معظم إن لم يكن كل الفعاليات المجتمعية للبنك، زوجتي الغالية وأم أولادي، أم طارق، والتي لولاها من بعد الله لم أكن لأستطيع إنجاز نصف ما أنجزته أو إعطاء البنك نصف الوقت الذي أعطيته، ومن ثم أبنيّ طارق ومروان وابنتي هند الذين علموني فن التعامل مع الحب والفرح من ناحية والمصاعب والمشاكل من ناحية أخرى، كما علموني الالتزام بالمسئولية والتخطيط للمستقبل، ومن ثم زميلاتي وزملائي موظفو بنك البحرين والكويت، فبهم ارتقينا بالبنك سوياً وبجانبهم سعدت بالعمل في كل يوم وساعة من عمري بالبنك، ومنهم تعلمت الأخوة والحميمية وفن التعامل مع بعضنا البعض، وأخيراً وليس بأقلهم أهمية، أنتم عملاء البنك المخلصين، فبكم ومعكم استطعنا التغلب على أشد الأزمات التي مررنا بها وبولائكم أشتد عودنا وقويت أساساتنا.
يحزنني، بل ويؤلمني مغادرة هذه المؤسسة العملاقة والعمل المصرفي برمته بعد رحلة ممتعة وشاقة امتدت إلى 40 عاماً، ولكن سلواي بأنكم ستظلون محفورين بذاكرتي بكل جمال ومحبة، وللأخ العزيز رياض أتمنى كل النجاح والتوفيق والسؤدد، وانا واثق ومطمئن بأن البنك تحت قيادته سينمو، و ليسمح لي عزيزي بو فيصل بأن أذكره بأن الإنسان إذا ما تعثر مؤقتاً فيجب عليه تغيير نمط وطريقة العمل وليس المبادئ والسلوك، تماماً كما الشجرة تغير أوراقها بكل فصل ولكن لا تغير جذورها أبداً.
أتمنى لكم جميعاً كامل الصحة ومجمل السعادة وأتمنى من كل واحد منكم بأن يغدو كالشمعة تنير الدرب للآخرين وكونوا على ثقة تامة بأن ذلك لن يغير من عمر الشمعة وهي تحترق.
وأخيراً اسمحوا لي بتقديم شكر خاص الى فريق العمل الذي كان وراء تنظيم هذه الأمسية بقيادة الأخت رفا قدورة مديرة العلاقات العامة بالبنك على الإبداع والجهد الجبار الذي بذلوه لإسعادنا هذه الليلة. بارك الله فيكم جميعاً وعذراً مرة أخرى على الاطالة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إقرأ أيضا لـ "عبدالكريم أحمد بوجيري"العدد 4947 - الأربعاء 23 مارس 2016م الموافق 14 جمادى الآخرة 1437هـ
شكرا لكم جميعاً. لقد اثلجت صدري تعليقاتكم البناءة.
اما بالنسبة لتعليق الزائر رقم ٣ ، فاتفق انه ليس العيب ان تعترف بالاخطاء في اي مرحلة من عمرك ولكن العيب ان تستمر في الخطأ وتكابر على نفسك والاخرين.
عبدالكريم بوچيري.
بالتوفيق دائما ان شاء الله
جميل ..
ان يعترف انسان بعد هذا العمر والنجاح بأخطاء فادحة في مجال عمله ولا يخفيها وان كانت في بداية المشوار .. ليس العيب أن نخطأ لكننا نتعلم فالحياة دروس وعبر كما قال الاستاذ بوجيري .
الكاسر
لي عتاب عليك بو طارق عنده قرائتي لمقالك الشيق
والمفيد في الحياة العملية
ذكرت في مقالك انك تريد ان تشكر ٦ أشخاص كانو السبب في نجاحك للأسف انك ....من وجهة نظري ان اول سبب من المفترض يكون أمك
ما شاء الله الصراحة الكلمة جدا مؤثرة ،،،، الله يوفقك وللامام دائما