والتقى صاحبنا بعدد من الشخصيات التي تعرف عليها عبر السنين، وشعر بالوحشة والغربة ؛ لفقدانه شخصيات أخرى كثيرة رحلت عن عالمنا الفاني إلى عالم البقاء الأبدي أو انشغلت في مشاكل الحياة، كما انشغل هو نفسه بذلك، وكان هذا يوماً من أيام العشق الإلهي كمثل يوم العشق الإلهي الذي عاشته السيدة رابعة العدوية الصوفية الزاهدة التي تعلقت بحب الله سبحانه وتعالى وقالت مخاطبة إياه في محرابها:
أحبك حبين، حب الهوى
وحباً لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي هو حب لذاتك
فكشفك للحجب حتى أراك
لم يكن صاحبنا صورة لرابعة العدوية الصوفية الورعة وإنما كان إنساناً عادياً محباً للتصوف وأهله زاهداً؛ بل كاره للسياسة وطموحاتها مقبل على العمل؛ لأنه يرى فيه نموذجاً للحياة والإنجاز وأنه دعوة من الله لعباده بقوله تعالي: «وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ الشَّهَادَةِ فينبئكم بما كنتم تعملون» (التوبة: 105). هكذا تصور، وهكذا عمل، وهكذا أنجز، وهكذا شعر براحة نفسية وطمأنينة تامة من جراء عمله وما يحققه كل يوم من نتائج مادية وروحانية وصفاء ذهني وتفاعل مع المجتمع والناس إعمالاً لقوله تعالى: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب «. (الزمر: 9). فالعمل في ارتباطه بالعلم مثل الأواني المستطرقة فلا يمكن لأحدهما أن يكون ممتلئاً والآخر فارغاً، ولا يمكن أن يتحقق أحدهما على الوجه الصحيح دون الآخر. فالعلم والعمل صنوان أو هما وجهان لعملة واحدة. وهما من أهداف الله سبحانه وتعالى من خلق الإنسان؛ ليعمل وليس ليتكاسل ويهمل. والعمل العضلي والعمل الذهني متكاملان وهما يعبران عن الامتثال لتعليمات الله التي وردت في القرآن الكريم في عدة سور بقوله: «أفلا يعقلون؟» «أفلا تتفكرون؟»، «أفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (محمد: 24)، «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت» (الغاشية: 17، 18، 19، 20). إنها تساؤلات موحية بهدفها أنها دعوة للعقل وإعماله والتدبر في خلق الله وقدرته وحكمته وفي إبداعاته من السماوات والأرض والجبال والأنهار والمحيطات، وكل ذلك مسخر للإنسان الذي قال عنه الله: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» (الإسراء: 70) إن هذه الآية رغم قصرها فهي تتضمن حكماً وتعليمات كثيرة لا نهائية وغير محدودة.
اليوم الثاني والثالث من إجازة صاحبنا كان يشارك في مؤتمر حول «الاتفاق الدولي بشأن البرنامج النووي الإيراني وتداعياته على أمن دول الخليج العربية، وعلى الأمن القومي العربي»، وهذا المؤتمر الدولي الذي شاركت في تنظيمه جامعة الدول العربية والمجلس المصري للشئون الخارجية بصفته الرئيس الدوري للمنتدى النووي العربي، وشارك فيه باحثون ومفكرون ودبلوماسيون من عدة دول عربية ومن المسئولين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحاوروا وتناقشوا بحب ومودة وبحث عن المعرفة للاسترشاد بذلك في عملهم ولتقديم رؤيتهم للأوضاع في الأمة العربية الحائرة أو التائهة في بيداء الأحداث. وكانت مشاركة صاحبنا بصفته الشخصية معبرة عن خبرته ومعرفته ولا يمثل أية دولة، وحرص على أن يسجل اسمه بهذه الصفة في برنامج المؤتمر.
وقد خلص المؤتمر بعد مناقشات ومداولات استمرت على مدى يومين كاملين إلى عدة نتائج أو هكذا ما توصل إليه صاحبنا من مشاركته في مداولات المؤتمر، وتتمثل في مجموعة من الأفكار - يمكن وفقا لرؤيته أن يلخصها في النقاط الآتية:
الخلاصة الأولى: إن العرب كأمة وكدول في منعطف خطير في تاريخهم، فقد وصفهم الله بقوله: «كنتم خير أمَّة أخرجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» (آل عمران: 110). وها هم يعيشون لحظة فارقة وخطيرة في تاريخهم؛ إذ تتكالب عليهم الشعوب كما تتداعى الأكلة على قصعتها، فالشرق والغرب يخططان أو هكذا الصورة تبدو في هذه المرحلة - لتدمير هذا العالم العربي والإسلامي، وهكذا تصور بعض المشاركين أن إيران وتركيا وإسرائيل كل منها تعمل لمصلحتها وضد مصلحة العرب. فإيران الفارسية الشيفونية الصفوية، كذلك الأمر بالنسبة إلى تركيا العثمانية والأردوغانية وللعجب العجاب، أن محور تلك الأساليب الخادعة - التي رفعتها هاتان الدولتان في شعاراتها - هو الإسلام والطائفة، وكلاهما برأيي من هذه الأساليب المليئة بالطموحات الذاتية والبعيدة عن جوهر الإسلام، وإنما لب التدخل هو السعي إلى السيطرة وبسط النفوذ وجوهره هو الاستعلاء بالذات والنظرة الدونية للعرب.
أما إسرائيل فهي تفعل الشيء نفسه، وإنما باسم الدين والعرق الذي يمتزج أو امتزج تاريخيّاً بالدين بالنسبة إلى أحفاد سيدنا يعقوب الذي تغير اسمه لاحقاً الى إسرائيل بناء على توجيه الله العلي القدير، ومن هنا تحدثت الدولة العبرية دائمًا عبر مصطلحات مثل أرض الميعاد، و شعب الله المختار في مرحلة زمنية قديمة، لكنهم أطلقوا البعد الزمني ليكون عبر العصور وفي الوقت نفسه نسوا الله كما نسوا شروط الاختيار. وركزوا على مفهوم التوسع والسيطرة مستعينين بكل قوة دولية صاعدة في كل مرحلة زمنية؛ حيث قدمت لهم بريطانيا وعد بلفور الذي قال عنه الزعيم جمال عبدالناصر «أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق واستطاع من لا يملك ومن لا يستحق بالمكر والخديعة أن يسلبا صاحب الحق حقه أي الفلسطينيين. كما زودتهم فرنسا بأول مفاعل نووي، وروسيا بهجرة الملايين من اليهود، وأميركا بأحدث الأسلحة والأموال الهائلة وبحق الفيتو العجيب الذي يقضي على أية حقوق للآخرين، بل ويرفض الاعتراف بها، ويرفع راية الصلابة في موقفه لمصلحة هذه الدولة المعتدية الساعية ضد إرادة الفلسطينيين في الاستقلال واغتصاب أبسط حقوقهم. (يتبع)
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4942 - الجمعة 18 مارس 2016م الموافق 09 جمادى الآخرة 1437هـ
أقترح ان تقرأ و بإمعان كتاب الدكتور علي الوردي:" خوارق اللاشعور".كتاب صعب فهمه. حاول قرائته و فهمه. عندما يقرؤها الانسان المنفتح يتعرف علي عقله و أفكاره وسبب إصدار الأحكام و القرارات النابعة من لاوعيه.