مثلما فعل التلفزيون الرسمي السوداني في مثل هذا الشهر قبل أربع سنوات (مارس/ آذار 2012) بتغطية وقائع تشييع جنازة زعيم الحزب الشيوعي السوداني المعارض محمد ابراهيم نُقُد قام التلفزيون نفسه في (الخامس من الشهر الجاري) بقطع برامجه الاعتيادية لينعى رحيل الزعيم والمفكر الإسلامي وقائد حزب المؤتمر الشعبي الإسلامي المعارض حسن الترابي، كما قام في اليوم التالي بتغطية وقائع تشييع جنازته أيضاً. وكلتا الجنازتين شهدتا مشاركة جماهيرية حاشدة تصدَّرها لفيف كبير متنوع من كبار الشخصيات الحزبية المدنية الشعبية والنقابية والرسمية والوزراء وكبار رجال الدين.
الترابي ونُقُد مفكران بكل معنى الكلمة، ساهم كل منهما بالتنظير والاجتهاد في سياق الفكر الذي ينتمي إليه بتجرد وإخلاص من أجل رفعة شعبهما ووطنهما السودان، وكلاهما من جيل واحد، وُلدا في زمنين متقاربين وتُوفيا في زمنين متقاربين، الأول وُلد العام 1930 وتُوفي 2012، والثاني وُلد 1932 وتوفي قبل أيام من الشهر الجاري لهذا العام 2016. ولعلَّ قلة من المتابعين الذين يعلمون أو يتذكرون اليوم أن كلتا الشخصيتين قد حلتا ضيفتين على سجن» كوبر»غداة الانقلاب العسكري الذي قاده عمر البشير على حكومة الصادق المهدي المنتخبة في (يونيو / حزيران من العام 1989) ضمن حملة اعتقالات كبيرة شملت حينذاك مختلف القوى والرموز السياسية، بل ولعل من المفارقات السياسية اللافتة وغير المسبوقة، في تاريخ الانقلابات العسكرية العربية، أن المعتقل الترابي كان هو مهندس الانقلاب نفسه الذي قام بحملة الاعتقالات وبعلم مسبق منه، على رغم أنه كان نائباً لرئيس الوزراء ووزير الخارجية في حكومة الصادق المهدي المنتخبة. وفي هذا الصدد ينقل مدير السجن اللواء الكامل محمد سليمان ما أبداه أمامه نُقُد من ذهول من هذه اللعبة السياسية باللهجة السودانية: «الترابي مع ناس الحكومة ومسجون معانا!» . ( صحيفة الراكوبة السودانية ، 18 سبتمبر/ أيلول 2013) .
وقد نجح هذا التكتيك في إخفاء هوية الانقلاب غداة وقوعه في حصوله على العديد من المواقف العربية والدولية المؤيدة له قبل ان تتضح هويته الإسلامية - الإخوانية لاحقاً ويتم الافراج عن زعيمه الروحي الفعلي الشيخ الترابي الذي دخل في تحالف ثنائي وطيد مع الزعيم العسكري للانقلاب الرئيس عمر البشير على مدى عقد كامل ( 1989- 1999) ، لكن سرعان ما دب الخلاف والصراع بينهما وتعرض لسنوات من الاعتقالات المتكررة.
في تغطيته لجنازة زعيم الحزب الشيوعي السوداني محمد ابراهيم نُقُد، الذي شُيع بهتافات المشيعين «لا إله إلا الله»، علّق مذيع التلفزيون الرسمي السوداني راثياً إياه:
« في موكب مهيب حزين شيعت البلادُ رمزاً وزعيماً ومناضلاً سياسيّاً منذ الاستعمار، ابناً من أبنائها، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني الراحل الفقيد محمد ابراهيم نُقُد، إذ تقاطرت الجموع يملؤها الحزن والأسى عقب وصول جثمان الفقيد من العاصمة البريطانية (لندن)، حيث فاضت الروح لبارئها، وتلقى المكتب السياسي للحزب التعازي من الوزراء والمسئولين بالدولة ورؤساء التنظيمات والأحزاب السياسية... رحل رمز قومي في الساحة السياسية عمل في أيامه الأخيرة على إقامة أسس لتواصل وطني قويم مولداً شعوراً بالاجماع الوطني... رحل رجل قاوم الاستعمار وناضل برؤاه في البرلمان ودعا إلى نبذ العنف وإقامة الحوار سبيلاً لحل القضايا...».
ونقل التلفزيون نفسه شهادة ونعي عثمان عمر شريف، القيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي له: « والله نشهد أنه كان من الذين يؤدون الصلاة، ومن الذين يعدون مكان الصلاة، ومن الذين يحضّرون للمصلين الأباريق، وقد كنت معه في سجن كوبر وكان يخدم الصائمين ويقوم على راحتهم، اللهم كان فينا نعم العبد الأوّاب التوّاب».
كما نعاه الترابي في سرادق العزاء: « كان الفقيد مُحباً للخير وكانت له كاريزما عالية داخل الحزب العقائدي، وقاد الحزب في ظروف بالغة التعقيد، وكان متمسكاً بمبادئه السياسية».
وأضاف «ومن يكفرون الناس ينتسبون إلى سالف الحياة ليس الى قادمها ومستقبلها».
نحن بذلك ازاء علاقتين نموذجيتين فريدتين من نوعهما في العالم العربي لعل السودان وحده يختص بهما: الأولى علاقة من التفاهم والاحترام المتبادل بين نقيضين في الحياة السياسية والفكرية ألا وهما أقوى حزب اسلامي ممثل بحزب المؤتمر الشعبي الاسلامي بقيادة الراحل الشيخ الترابي واقوى حزب يساري ممثل بالحزب الشيوعي السوداني بقيادة الراحل نُقُد، والثانية علاقة السلطة القائمة بكلتا الشخصيتين وحزبيهما، التي، وإن غلب عليها التوتر في أغلب الأحيان والشك المتبادل، فإن السلطة كما عبرت رسميّاً وفي تلفزيونها الرسمي، كما تقدم آنفاً، لم تملك إلا الإقرار بمكانتهما ودورهما ووزنهما الوطني والسياسي في تاريخ البلاد.
وعلى رغم تمسكه باسمه التقليدي منذ تأسيسه والمثير للحساسية الدينية والارتياب في مجتمع محافظ شديد التدين، فإن الحزب «الشيوعي»، وعلى عكس سائر الأحزاب الشيوعية العربية، لم يحظ بهذه الشهادة من غريمه الاسلامي الترابي وحزبه، ومن السلطة العسكرية القائمة ذات التوجه السياسي الاسلامي، لولا أنه فرض احترامه وكان متكيفاً ومنسجماً مع التقاليد والأعراف الشعبية لشعبه غير متعالٍ على ثقافته الدينية، بل مطوّع إياها بما ينسجم مع أهدافه السياسية النضالية وعدم وضعها في تصادم معها.
وإذا كانت هذه الميزة التي اختص بها الحزب الشيوعي في نضاله السياسي ونجح بفضلها في استقطاب أوسع قاعدة جماهيرية افتقرت اليها جل الأحزاب الشيوعية العربية، وكانت من أبرز الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها واعترفت بها لاحقاً بعد فوات الأوان، فإن من غير المفهوم أن تفشل قوى المعارضة السودانية فيما بينها، وخاصة بين تيارها «العلماني» بمختلف تلاوينه من جهة وبين تيارها «الاسلامي» بمختلف تلاوينه من جهة أخرى، في ايجاد لغة من الحوار وقاعدة صلبة من الأرضية المشتركة أقوى مما هي عليه، في الوقت الذي لو توافرت هذه الميزة من التفاهم المتبادل والتعايش المشترك بين قوى التيارات الاسلامية من جهة والتيارات «العلمانية» من جهة أخرى في سائر الأقطار العربية لقطعت شوطاً لا بأس به من التحالف الصلب، لا الهش، القائم على تغليب القواسم المشتركة من أجل التغيير والإصلاحات الدستورية والديمقراطية وإقرار التعددية في بلدانها.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4938 - الإثنين 14 مارس 2016م الموافق 05 جمادى الآخرة 1437هـ
شكرا
مقال متميز