تغيرت قرية باربار كثيراً خلال نصف قرن من الزمن. فالأمكنة والحارات والفرقان والمساحات والبراحات والشوارع والبيوت والأزقة والطرقات والملاعب والمرابع كلها تغيرت وبعضها الآخر اختفى تماماً وبعضها تغير شكله والبعض الآخر تبدل شكله ومضمونه، أما تلك العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي كانت تفرضها تلك الأماكن على تنوعها فلم تعد قائمة لأن بنية الأماكن والعلاقة فيما بينها تمثل في الوقت نفسه نوعاً من العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وتعكسها.
ومع ذلك فإن الأمكنة عندما تتغير أو تختفي على الصعيد المادي أو الملموس وعندما تختفي العلاقات الاجتماعية المرتبطة بها أو تتغير فذلك لا يخفيها مطلقا؛ بل تظل حاضرة وبقوة في ذاكرة من سكنوها أو أقاموا معها علاقة من نوع ما، ويزداد ذلك الحضور كلما تقادم العهد عليها وزال أثرها. فالأمكنة نعم قد تزول لكن ذاكرة الأمكنة تبقى حية متجددة. وتتذكرها جملة وتفصيلاً.
بالنسبة للأمكنة في قرية باربار تحتفظ الذاكرة لأولئك الناس الذين عايشوها ردحاً من الزمن بكثير من الذكريات والأشياء والأسماء والثيمات التي كانت ولم تعد قائمة.
في باربار تحتفظ الذاكرة بأسماء لأحياء من قبيل حلة العودة وحلة الصغيرة وفريق السمادة وفريق الغضيّر وفريق الساحة وفريق الغربي وفريق الشمالي لم تعد موجودة ولا يعرف عنها الجيل الشاب أي شيء. صحيح أن الحي أو الفريق مازال قائما لكن ليس كما كان، ولا باسمه القديم ولا ببيوته القديمة المبنية من الجص والطين، وشوارعه وطرقاته لم تعد مرملة (من الرمل) بل باتت مرصوفة ولم تعد المكان الأثير لدى الأطفال لممارسة الألعاب الشعبية من قبيل التيلة مثلاً، وليست الأماكن التي يتجمع فيها الكبار يتجادلون ويأكلون الباقلاء والنخج ويشربون المرطبات ويتبادلون السلامات بمناسبة وغير مناسبة، ويلعبون الجوز في رمضان.
فلم يعد أهم معلم في حلة العودة موجوداً وهو دكان المرحوم سيدهاشم بن سيد فاخر، ولا مخبزه وعبدالرحمن الخباز، ولا جابي فواتير الكهرباء الذي يجلس في الشارع المار بدكان السيدهاشم في نهاية كل شهر ميلادي ليجبي رسوم الكهرباء من الأهالي لم يعد موجوداً. وتلك اللمة في الأماسي أمام دكان السيد ما عادت قائمة. أما دكان المرحوم عبدالرحيم الشويخ (مشويات الحمرية الآن) في مدخل القرية لم يعد موجوداً، وقد كان له فيما مضى حنة ورنة. فهو أول براد في الديرة.
المساحة الفاصلة بين حلة العودة وفريق الغربي القريب من مسجد الشيخ علي بن حماد ما عادت قائمة كانت في الأصل عبارة عن سمادة (مكب لنفايات القرية لسنوات طويلة) وكان الأطفال يجدون متعة «يتقممون» فيها ويبحثون عن بعض الألعاب. أو أي شيء.
أما حلة الصغيرة فكانت أحد أحياء القرية وكانت تسمى بهذا الاسم؛ لأنها تمثل في الأصل حياً مكوناً من بضعة بيوت، وهي حي صغير بالقياس إلى حلة العودة أي مركز القرية. أقول حلة الصغير لم تعد صغيرة؛ بل أصبحت كبيرة واختفى كل شيء تقريبا من معالمها القديمة. كانت على علاقة بالبحر مباشرة وبعض المزارع وكبرات الدواجن من جهة الشمال، أما الآن فهي محصورة من كل الجهات وضاعت معالمها التقليدية. كان فيها دكان وحيد هو دكان أولاد عيسى ولم يعد موجوداً والبيوت كانت كبيرة فيها عوائل ممتدة أما الآن فقد توزعت إلى بيوت صغيرة. والحلة الصغيرة هذه كانت تتميز بمعلم مهم وهو بيت الحاج عبدالله بن مهدي وأبناء الشاعر كان هذا المعلم بمثابة قصر ليس في حلة الصغيرة؛ بل في القرية وله هيبة وكان بمثابة مضافة لكل أهالي القرية. لقد اضمحل بالقياس إلى ما كان عليه من جمال وحضور في حلة الصغيرة، وفي القرية وحتى في عموم البحرين، حيث تقام سنويا وليمة كبيرة لأحد المشائخ أو لأحد الوجهاء من البحرين، وكان أيضا مكان استراحة لأصدقاء الحاج عبدالله بن مهدي وآل الشاعر من خارج البحرين... لم يعد البيت موجوداً كما كان ولم يعد مجلس الحاج عبد بن مهدي ببهائه وحضوره التاريخي، ودوره الاجتماعي والعائلي القديم موجودا، لقد اضمحل بالقياس إلى ما كان عليه من جمال وحضور في حلة الصغيرة، وفي القرية. لم يبق منه سوى ذاكرة المكان.
أيضا تميزت حلة الصغيرة ببناء مأتم لأهالي القرية في سنة 1968 فصار هذا المأتم أحد معالم القرية، وهو أيضا تغيرت معالمه ومساحته وملامحه أكثر من مرة، ولم يعد كما كان ببساطته عندما شيد أول مرة، فالمكان الأول غير المكان الثاني في الذاكرة. ولا يغيب عن الذاكرة أهم وأقدم معلم مكاني في حلة الصغيرة، وهو حسينية السادة المحافظة ومع أن هذه الحسينية جددت عدة مرات ابتداءً من سنة 1969 فإن الذاكرة لا تحتفظ إلا بما كانت تمثله هذه الحسينية من بساطة عندما كانت قديمه في مبناها ومعناها.
وفي القرية يوجد فريق الساحة الذي سُمي بهذا الاسم لأنه شيد في مساحة من الأرض كبيرة تسمى الساحة، وكان عبارة عن مكان لاستجمام الأهالي ثم أصبح ملعباً، ثم حياً سكنياً هو فريق الساحة عندما تم بناء أول بيت فيه وهو بيت السيدشرف السيدرضي الوداعي في العام 1967 وما هي إلا بضع سنوات لتمتد البيوت في كل الاتجاهات على مد البصر، وتختفي الساحة تماماً ولا يبقى منها سوى اسمها. والبيوت التي تغيرت رأساً على عقب.
بالنسبة للفريق الغربي كان مسجد الشيخ علي بن حماد هو النهاية وهو المعلم الأبرز في القرية والأقدم على الإطلاق؛ لكنه تم تغيير ملامحه في غضون نصف قرن ثلاث مرات. وفي قبالته بيت المرحوم الحاج عبدالله الطيار، والحاج عبدالله محمد مكي. وفي أقصى الغرب بيوت من العرشان، وهي عبارة عن «مقيظ» لبعض الأهالي وخاصة المرحوم حاجي خلف بن أحمد بن خلف ثم لأناس من أبوقوة (المقويين) أما الآن فهو واقع في أملاك يتيم وهو عبارة عن قصر ريفي، ثم فيما بعد وعلى المساحة المتبقية الواقعة غرب المقيظ (الشريبة) فقد تم إنشاء بيوت للأهالي لا يحمل أي اسم كان يطلق على المنطقة اسم المقصب، لكن أقدم هذه البيوت في هذا الفريق هي بيوت أولاد إسماعيل: المرحومان الحاج منصور والحاج عبدالوهاب. وكان المرحوم علي بن منصور لديه جلسة أمام بيته المحاذي لشارع النخيل، وكانت هذه الجلسة من أهم معالم الفريق وهي أشبه بمضافة للأصدقاء وغير الأصدقاء وعابري السبيل. ولكن كل ذلك اختفى ولم يبق منه سوى الذكريات المتعلقة بالمكان.
أما مدرسة باربار الابتدائية للبنين فهي كانت ساحة للعب كرة القدم وممارسة مختلف الهوايات، ثم اختفت حيث أنشئت عليها مدرسة باربار الابتدائية للبنين. وأيضا مدرسة زينب الإعدادية للبنات كانت في الأصل ساحة يلعب فيها الأطفال والنادي وفريق الكوكب، ثم تحولت إلى مدرسة ابتداءً من منتصف الثمانينيات. وأصبحت الأماكن أثراً بعد عين.
ولا يغيب عن البال الفريق المحاذي لدولاب يتيم وفيه معلم مهم وهو مدرسة باربار الابتدائية للبنين (الأولى) التي شيدت في العام 1969 وكانت في الفترة الصباحية للبنات وفي المساء للبنين، وقبل ذلك كانت المدرسة في الأصل مكونة من بيت السيدحسن بن السيدمحفوظ، وتمت إضافة الأرض المحاذية له من الغرب لبناء المدرسة لتصبح كلها من أملاك المرحوم سيدمجيد الماجد، حيث كانت مدرسة مستأجرة أما الآن فهي مهجورة كمعلم على زمان مضى وانقضى.
يضاف إلى هذا المعلم في فريق يتيم دكان المرحوم ميرزا محمد مدن، وقد كان مكانا عامرا بالأطفال والشباب والكبار، وكان صاحبه يمتاز بهدوء وطيبة إلى أبعد الحدود. وكان يقصده كل الشبيبة؛ لأن به تلفزيون أسود وأبيض يعرض فيه مسلسل «وضحى» و «بن عجلان»، ومسلسل «صح النوم».
أما فريق الحمرية فقد أخذ اسمه من نخلة الحمرية أي نوع من الرطب المعروف بهذا الاسم، والحقيقة أنه لم يكن حياً؛ بل كان عبارة عن خط من النخيل الممتدة بمحاذاة الشارع العام وبالتحديد في بردات الرمضاني الآن، أو بيت المرخي وأهم نخلة بين النخيل هي الحمرية. فاشتق اسمه من اسمها ومازال الاسم باقياً في حين معالم المكان انتهت إلى الأبد بما في ذلك نخلة الحمرية وغير الحمرية.
في الفريق الوسطي وهو في الحقيقة متداخل يقع فيه أهم معلم تاريخي وهو خباز المرحوم حجي علي بن الحاج محمد حسن، وإلى جانبه دكان ومع أن المخبز من أقدم مخابز المنطقة إلا أنه مازال مستمراً؛ لكنه تغير وتنقل عدة مرات من عمره الذي يزيد على نصف قرن. وفي الفريق نفسه كانت مساحة من الأرض أو براحة يلعب فيها الأطفال وكانت تقام فيها مسرحيات يتم فيها تمثيل مأساة الإمام الحسين وقيام بني أسد بدفن القتلى وعادة ما يتم التمثيل ليلة الثالث عشر من محرم. لذلك سميت الساحة بساحة بني أسد، وكان الشباب يمثلون أدوار الشخصيات المشاركة في المأساة. أما الآن فهي غير موجودة وقد قامت عليها مجموعة من المنازل للأهالي، وأصبحت الساحة مجرد ذكرى في ذاكرة المكان. والممثلون الأحياء.
وهناك أحياء يصعب تصنيفها لأنها متداخلة مع الأحياء الأخرى؛ لكنها مع ذلك اتخذت تسميات من خلال ساكنيها، مثل فريق أولاد رمضان ويقصد به مجموعة البيوت التي يقع فيها بيت المرحوم الحاج عيسى بن رمضان، أو فريق أولاد شعيب نسبة إلى بيت المرحوم الحاج حسن بن شعيب وإخوانه، وكذلك فريق أولاد ناصر حيث يقع بيت المرحوم ناصر محمد ناصر، وفريق أولاد إسماعيل أما أهم معلم في هذا الفريق فهو بيت أولاد محمد بن علي القشعمي فقد كان بيتاً كبيراً به عائلة كبيرة، وبه مجلس كبير من أهم مجالس الفريق قامت ببنائه الملاية المرحومة بنت حجي أحمد بن سلمان. وهلمّ جرّا. وفي كل الأحوال لم تعد الأحياء موجودة كما كانت ولم تعد تعرف بأسمائها التي عرفت بها فيما مضى. فكل شيء قد مضى ولم تبق سوى ذاكرة المكان. وأحياء تعرف بأرقام.
كان فريق الغضيّر هو الحي المحاذي من جهة الجنوب للشارع الممتد من الحمرية إلى بيت أولاد حجي أحمد الشويخ، وهو مجموعة من البيوت المتراصة والتي تليها من جهة الجنوب مزارع، أما الآن فعلى رغم وجود هذه البيوت فإن الحي ازداد طولاً واتساعاً، ولم يعد كماً كان من حيث الأماكن. وربما سمي بهذا الاسم بالارتباط بالغضارة، أي الطراوة والنضارة لوجود المزارع ونضارة الأشجار، أو من المحتمل بأن المنطقة تشبه المكان المقعر الذي يشبه الغضارة (الطاسة).
بالنسبة للمزارع والحقول كانت تحف بالأماكن والأحياء من كل الجهات وكانت تمثل مكاناً للترويح والتنفيس عن القرويين وخصوصاً في فصول الربيع والصيف، كانت المزارع مليئة بالمياه والعيون والبرك والطيور والحيوانات، وكل ما يبهج النفس ويفرح القلب وينفس الخاطر. كل ذلك لم يبق منه شيء سوى ذاكرة الأماكن والحسرة على ماض مضى وانقضى، ولا مجال لاستعادته لا في المكان ولا في الزمان أبد. إلا في الذاكرة.
طبعا ذاكرة المكان في قرية باربار لا تتوقف عند هذا الحد، فالذاكرة واسعة والأماكن كثيرة حيث لم نتطرق إلى كثير من التفاصيل المتعلقة بالأمكنة والبيوت والأزقة والشوارع على أمل أن نعود لذات الموضوع في مناسبة أخرى وبمزيد من التفاصيل. لذا نكتفي بهذا القدر من الشذرات.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 4928 - الجمعة 04 مارس 2016م الموافق 25 جمادى الأولى 1437هـ
انتقصت حق رجالات القرية وركزت على بعضهم
وين عبدالعزيز الشويخ وجلسه؟ وين مختار باربار السيد مجيد الماجد ومجلسه ووجاهته؟ وين بيت داوود؟ وين بيت الجمري؟ وين بيت المقابي؟
هل يعقل تنذكر باربار وهالاسماء لا تذكر؟ او بس تذكر ربعك
نحن من اهالي قرية باريار وسنخاطب إدارة الوسط على كتابة مقالات تستنقص من رجالات القرية
احمل اخيك على 70 محمل ... لا يمكن استيعاب تاريخ ورجالات واحياء وتراث قرية متجذره ولها تاريخ طويل في مقال واحد ... هو كتب ما يقدر وما يخطر "ويجوز ما يمثل خطه وفكره ومنهجه" قد نختلف وقد نتفق معه ولكن شيئ خير من لا شيئ ... وبالامكان كتابة مقالات ونشرها في اي جهه اعلامية
يجب ان لا نتحسس من اي مقال لان الان الزمن تغير وبالامكان الرد في اي مكان من جهات للتواصل
أحسنت استاذ يوسف مقال رائع كما هو انت
هنالك خطأ، فالحلة الصغيرة كانت تحتوي على مأتم قبل عام 1900 وهو حسينية المحافظة، بينما مأتم الشمالي قد تم بناءه في 1968
فنرجوا تصحيح معلوماتك
اتمنى نشوف اعمدة عن اشياء عامة للبحرين بدل ما نشوف عن قرى صغيرة واسماء ما نعرفها
انت ما تعرفها ولا تعني لك شيئ ... غيرك المهتم وأهالي المنطقة تعني لهم الكثييير ... وتاريخيا للبحرين حفظا من التزييف والتضليل