على مدى أسبوع كامل أمضيتُ إجازة سياحية ثقافية شتوية ممتعة ومفيدة في القاهرة، تعمدتُ أن تتزامن مع الأسبوع الأخير لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وعلى عكس الهواجس التي كانت تراودني بشأن مدى مواءمة توقيت الزيارة في ظل الأوضاع الأمنية للمدينة، لاسيما بُعيد إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وما قيل حينها إن الحادث تسبب في ضربة كبيرة للسياحة المصرية بعزوف السياح الحاد عن زيارتها، فقد تبيّن لي بأن ذلك ليس إلا من قبيل التضخيم الإعلامي، فلم أشاهد طوال إقامتي في المدينة أي استنفارات أمنية غير اعتيادية، بل لعل من حسن طالع زيارتي هذه المرة وعلى عكس كل الزيارات السابقة إن اجراءات دخول المطار والخروج منه لم تستغرق مني سوى أقل من نصف ساعة، وانسياقاً مع تلك الهواجس فإني لم أحجز مسبقاً في الفندق الذي تعودت أن أقيم فيه بمنطقتي المفضلة «الدُقي» منذ زمن حياتي الطلابية الجامعية متوقعاً شغور معظم الغرف؛ لكن تفاجأت بأن جميع غرفه مشغولة بسياح ووفود عرب وأجانب، ولم أتمكن من الحصول على غرفة فيه إلا بصعوبة بالغة.
هذا لا يعني بطبيعة الحال أن السياحة المصرية الشتوية هي في كامل عافيتها؛ لكن بالتأكيد هي في طريقها للتعافي الكامل، ذلك بأن أهمية وعراقة السياحة المصرية وموقعها المتميز على خريطة السياحة العالمية أكبر من أن تطمسه ضربة إرهابية عابرة مهما كانت قسوتها، ولدى مصر خبرة مديدة في سرعة امتصاص مثل هذه الضربات وكأنها لم تكن. وفي لقاءاتي العابرة بأفراد من مختلف الطبقات الاجتماعية عبر معاملات أو من خلال استفسارات سياحية، أو لدى ارتيادي المطاعم والمقاهي الشعبية، وحرصي على استخدام مختلف أنواع المواصلات، من سيارات أجرة ومترو وباصات صغيرة بدت لي القاهرة هادئة أمنياً، ماخلا ضجيجها المروري المعهود ونداءات الباعة الجائلين، ولمستُ سجايا المصريين لم تتغير في الغالب الأعم بما يتميزون به من ظرافة محبذة، ورقي إنساني في المعاملة ليس مع السياح العرب فحسب، بل حتى مع بعضهم بعضاً، وإنك لتشعر بنبضات حياتها الاجتماعية تتدفق في شرايينها الاقتصادية والثقافية والفنية والدينية وتدب في أوصالها بلا انقطاع موصلةً ساعات الليل بساعات النهار.
فالقاهرة هي العاصمة الوحيدة ربما في العالم التي لا تنام، كل هذا رغم الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي ما فتئ معظم المصريين يرزحون تحت وطأتها الثقيلة، لكنهم يتغلبون عليها ما أمكن ذلك سبيلاً بقوة الإرادة في مكافحة البطالة، وابتكار الوظائف والمهن غير المعهودة، والعمل لساعات طوال من أجل قوتهم اليومي، وعدم المراهنة على الوظائف السهلة أو التي يحلمون بها إذا ما عز الحصول عليها، ولولا اتصافهم بهذه الميزة لكان حجم البطالة في مصر أضعاف مما هي عليه الآن بمرات (حجمها المعلن رسمياً قبل ثلاثة شهور نحو 13 في المئة) في بلد هو الأكبر عربياً في الانفجار السكاني حيث يقترب سكانه من الـ 100 مليون نسمة. لكن وعلى رغم مما عانته مصر وتعانيه من مصاعب اقتصادية طوال العقود القليلة الماضية والتي بلغت ذروتها خلال الخمس سنوات الماضية منذ انفجار ثورة يناير 2011 فإن قاعدة تماسك نسيجها الوطني صلبة ووحدتها الوطنية عصية على التفتيت حتى مع كل ما لحق بها من خدوش وأضرار سطحية بفعل صعود التيارات الدينية المتطرفة، على عكس بلدان الربيع العربي الأخرى التي ما انفكت تعاني من الحروب والمذابح والصراعات الطائفية والقبلية الدامية وغير الدامية والتفتت الوطني والتدخل الأجنبي، وما خلفه ويخلفه كل ذلك من مآسٍ وكوارث إنسانية جماعية لا حصر لها. وهذا ما أكدت عليه شخصياً في لقاء تلفزيوني عابر أجراه معي ثلاثة شبان من بينهم فتاة جميعهم في أعمار الزهور ويتبعون إحدى القنوات المحلية، وذلك قبالة مبنى الأوبرا في الجزيرة إذ استوقفوني وأنا أتمشى نحو كوبري قصر النيل قاصداً ميدان التحرير الذي أضحى رمزاً وأيقونةً للتغيير السياسي السلمي في مصر ، بعد ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، فإلى قلب الحي التجاري القديم المعروف شعبياً بـ «وسط البلد». كما أكدت في الحوار أن نعمة الوحدة الوطنية يا أبنائي هي الصخرة التي تتحطم عليها مختلف الأزمات والمعضلات التي تعاني منها الشعوب، ولا حلول ولا تقدم للأوطان بدون سواها.
كان جل الفعاليات الثقافية التي حضرتها أقيمت على هامش معرض القاهرة الكتاب الذي امتاز هذا العام بإقبال جماهيري واسع وبخاصة من فئة الشباب بحسب تغطيات أغلب الصحافة المحلية، وإن كان بعضها لم يغفل تناول ما أطلقت عليها مظاهر السلبيات المزمنة، والتي منها - بحسب تغطياتها - انخفاض مستوى النظافة، وغياب التنظيم والإرشاد السهل لمواقع وأمكنة أجنحة دور النشر وقاعات الفعليات الثقافية والفنية، والاستمرار في نصب المخيمات لأجنحة دور النشر والمكتبات والتي تتسبب في اتساخ الكتب بالأتربة بفعل الرياح المغبرة بدلاً من الشروع في بناء القاعات الأسمنتية.
ولذا انتهزت فرصة تجوالي على الأجنحة لتجاذب أطراف الحديث مع أصحاب دور النشر والمكتبات عن تلك الملاحظات واتفق الجميع حول صحتها والأمل «الذي طال انتظاره» بحسب تعبيرهم بتجاوزها. كما تشعب الحديث مع بعضهم حول تجربة «معرض الكتب المستعملة» التي تنظمه صحيفة «الوسط» لصالح الأعمال الخيرية، وأبدوا إعجاباً بالتجربة وزودتهم بروابط للمقالات التي كُتبت عنها. وكانت فعاليات المعرض تصل يومياً بحسب إحدى نشرات البرنامج الثقافي اليومي التي بين يدي إلى ما يقرب من 60 فعالية تتنوع عناوينها من ندوات ومحاضرات وحلقات نقاشية سياسية وأدبية وفنية واجتماعية وعروض لكتب جديدة وحوارات مع مؤلفيها، إلى أمسيات شعرية وتراثية وغنائية ولقاءات مع روائيين، وفعاليات خاصة بتنمية مواهب الأطفال والمعارف الثقافية والعلمية في مختلف المجالات. وجاء شعار المعرض لهذ العام «الثقافة في المواجهة» في حين اختيرت مملكة البحرين ضيف الشرف واختير الروائي المصري الكبير الراحل جمال الغيطاني شخصية المعرض، واختتم المعرض بإعلان أفضل كُتب هذا العام في مجالات الرواية والقصة القصيرة والمسرح والنقد الأدبي والعلوم الاجتماعية والفنون وأدب الطفل والمجالات العلمية والرقمية.
كما اغتنمت فرصة وجودي في القاهرة للالتقاء بأصدقائي المستشارين الإعلاميين السابقين في السفارة المصرية بالبحرين الذين تناوبوا على إدارة المكتب الإعلامي التابع لها منذ منتصف التسعينات إلى أن اغلق المكتب قبل نحو عامين أو أكثر لدواعي التقشف المالي الإداري، وكان في مقدمة هؤلاء المستشارين أحمد أبوالحسن، أحد كبار المسئولين في قطاع المعلومات والبحوث والإنترنت، بالهيئة العامة للاستعلامات التابعة لوزارة الإعلام والذي أحاطني بكل حفاوة وترحاب وضيافة كريمة وكان خير مرشد ومعين لي في إثراء برنامجي السياحي والثقافي اليومي، وكذلك الحال مع الأعزاء حسني حسن، وجابر حيدر والشاب النشيط أحمد وذلك أثناء زيارتي النهارية القصيرة الخاطفة للإسكندرية. وحينما دعاني أبو الحسن لزيارة مبنى الهيئة بمدينة نصر تشرفت بأن قدمني لوكيل أول وزارة رأفت السبع، رئيس قطاع المعلومات والبحوث والإنترنت، ودار بيننا في مكتبه حديث قيم ممتع في المجالات والقضايا الإعلامية واللغوية.
وبهذه المناسبة، يمكنني القول بكل ثقة إن تجربة مؤسسة الهيئة العامة للاستعلامات هي أغنى التجارب الإعلامية الرسمية الثرية العربية الملهمة الجديرة بالاقتداء، إذ تضرب بعراقتها إلى العهد الناصري، وتتميز بشفافيتها الموضوعية المتناهية في اختيار المستشارين الإعلاميين للبعثات الدبلوماسية، حيث يخضع المتقدمون من مختلف المحافظات لامتحانات قوية معمقة في مدى إلمام المتقدمين المتنافسين على عدد محدود من الشواغر في المكاتب الإعلامية بالسفارات المصرية للغة الدولة الأجنبية التي سيبتعثون إليها، وبمدى أيضاً عمق معلوماتهم وثقافتهم في الشئون السياسية والقانونية والدبلوماسية والبرتوكولية وغير ذلك من متطلبات علمية ومعرفية عديدة، ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل قد يُستدعى المستشار للعودة إلى بلاده إذا ما أخلَّ بمهمته.
وإذا لعب المستشارون الإعلاميون المصريون دوراً محورياً في منتهى الأهمية لتعزيز وتوطيد عرى التعاون والتواصل الإعلامي والثقافي بين بلادهم وبين الدول التي ابتعثوا إليها، بما في ذلك جهودهم الكبيرة للتعريف بثراء وتنوع أشكال السياحة في مصر بشتى أشكالها الآثارية والبيئية والثقافية والعلمية والتعليمية والدينية والاجتماعية، وإذ تواجه مصر أيضاً تحديات جمة لإعادة تنشيط القطاع السياحي فيها من جراء الضربات الإرهابية التي لحقت بها فإني أحسب أن المستشارين الإعلاميين المصريين في الدول الغربية والخليجية، وهي الدول التي تفد منها عادةً أعداد كبيرة من السياح العرب والأجانب، يتحملون قسطاً مهماً من مسئولية هذا التنشيط، الأمر الذي يتطلب دراسة إعادة النظر في إغلاق عدد من المكاتب الإعلامية بتلك الدول من أجل استعادة مصر بالكامل لواحد من أهم مواردها الحيوية المالية ألا هو المورد السياحي والتي هي في أمسّ الحاجة إليه في ظل ظروفها الاقتصادية الصعبة الراهنة، فما يُنفق على هذه المكاتب على المدى القصير الراهن لا يُقارن البتة بما ستجنيه مصر من عوائد مالية كبيرة للسياحة على المدى المنظور القريب.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4921 - الجمعة 26 فبراير 2016م الموافق 18 جمادى الأولى 1437هـ