في كثير من الدراسات الإنسانية التي تعنى بالجوانب النفسية والمعنوية تشير إلى مصادر السعادة التي تحقق راحة البال للإنسان، الملاحظ في بعض الدراسات لا تضع الصحة الكاملة، والبيت الواسع، والسيارة الفارهة، وكثرة المال والثروة وعظم الجاه والمنصب والوجاهة المرموقة في مقدمة المصادر التي توجد السعادة وراحة البال، تقول رغم أهميتها الكبرى في جلب السعادة وراحة البال، فإنها لا تجدها وحدها تؤدي إلى السعادة وراحة البال، وعلى سبيل المثال، قد ترى إنساناً يعيش في صحة تامة وفي بحبوحة فائقة ولا ينقصه أي شيء لا في الأساسيات ولا في الكماليات الحياتية، لكنه تراه كئيبا ومضطربا نفسيا ومعنويا طوال يومه، وباله ليس على ما يرام، وفي المقابل تجد إنساناً آخر مستواه الاقتصادي والاجتماعي والوظيفي والصحي يقل بنسبة تزيد على 50 في المئة عن المستوى الذي يعيشه الإنسان الأول، سواء كان في مستوى الصحة أوالمال أوالثروة أوالجاه أوالمنصب أوالوجاهة، لكنه تسمعه يقول على رؤوس الأشهاد إنه سعيد ويعيش مرتاح البال في حياته.
وعندما يسأل عن سر سعادته وراحة باله، يجيب من غير تردد، إن سعادته وراحة باله جاءتا من احترامه وتقديره لحقوق ومشاعر الآخرين في كل الأحوال والظروف، ولأنه في تعاملاته الإنسانية والاجتماعية لا ينظر إلى جنس الإنسان أو عرقه أو انتمائه الطائفي أو المذهبي أو مستواه الاقتصادي أو الاجتماعي أو الوظيفي، وكان دائما يرى أبعد من نفسه، فيقول إن الرقابة الذاتية لكل تصرفاته وممارساته وقراراته وإجراءاته، وعلمه الأكيد بأن إيذاء الآخرين حتى ولو بكلمة جارحة وراحة البال لا يجتمعان في شخص واحد.
فكان لهذه الثقافة الإنسانية الدور الأكبر في منعه عن التعدي على حقوق الغير، بأي مستوى من التعدي، واستطاعت الرقابة الذاتية الدقيقة أن تجعل من الذين يعيش بينهم، وفي أوساطهم يكنون له التقدير والاحترام والمحبة الصادقة، وكان هذا النهج العقلائي هو السبب في إيجاد السعادة وراحة البال له، فأما الإنسان الأول الذي تعمد في تجاوز كل الخطوط الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية في تعامله مع أخيه الإنسان، نجده يعاني من خلل كبير في الرقابة الذاتية، ما جعله يعيش في كآبة وتعاسة وإضطراب نفسي ومعنوي كبيرين، وتراه غير مستقر في حياته الأسرية والاجتماعية ومتذبذبا في قراراته وإجراءاته وممارساته وتعاملاته مع الآخرين، وهذا أدى إلى إضعاف أو قتل الضمير الإنساني في داخله.
وجعل النفس الأمارة بالسوء في داخله تتحكم بصورة سلبية في تصرفاته وقراراته بنسبة كبيرة، وجعلها تدفعه إلى ممارسة مختلف التجاوزات والأخطاء ضد إخوانه في الإنسانية بلا وازع أخلاقي يمنعه من إرتكابها، فليس لديه بأس أن يتعمد جرح المشاعر الإنسانية لأي أحد من الناس، وأن يعمل بكل الوسائل والطرق على تحطيمه نفسيا ومعنويا واجتماعيا، والمصيبة أنه يعطي لنفسه الحق في المساس باستحقاقات الآخرين، بعيدا عن الشرع والقانون والنواميس الأخلاقية والإنسانية، علماء النفس يتحدثون عن حقيقة هذا الصنف من الناس، وأن هؤلاء ولو تظاهروا بالراحة والسعادة، إذا ما اختلوا بعض الأحيان مع أنفسهم واستعرضوا كل ممارساتهم الخاطئة، تجدهم في أوضاع نفسية منحدرة جدا، لا يحسدون عليها كما يقولون.
فكل الدراسات النفسية لا تنفي وجود ولو نسبة معينة من الضمير الإنساني في داخل كل إنسان، وأنه لو تغلب على النفس الأمارة بالسوء، قد يحقق إنقلابا كبيرا في حياة الإنسان النفسية والمعنوية، ويجعله يتعامل بإيجابية مع أقرانه من البشر، وهناك أمثلة ونماذج كثيرة في التاريخ الإنساني للذين نالوا السعادة وراحة البال، بسبب محاسبتهم لأنفسهم المستمرة واليقظة الدائمة لضمائرهم الإنسانية، وقد أصبحوا علامة مضيئة في عالم الإنسانية إلى يوم القيامة، وكذلك في التاريخ أيضا النماذج السلبية في تصرفاتها وتعاملاتها الإنسانية، التي لم يكتب لهم السعادة بسبب عدم محاسبتهم لأنفسهم حسابًا دقيقًا، ما جعلهم يتمادون في ممارسة الأخطاء ضد الآخرين، من أجل نيل القليل من زخارف هذه الدنيا الزائلة، ونسوا أن البقاء لله، وأن جميع البشر بلا استثناء سينقلون إلى عالم الآخرة في اليوم الموعود، المكتوب في اللوح المحفوظ، ألم يخاطب الله جل جلاله في محكم كتابه العظيم رسولنا الكريم محمد بن عبدالله سيد الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق أجمعين من الأولين والآخرين بأنه ميت وأنهم ميتون، قال تعالى «إنك ميت وأنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون» (الزمر : 30، 31).
فالإنسان اللبيب والحصيف هو الذي يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا، لكي يترك أثرا طيبا في مجتمعه، فما أجمل الشخص الذي كلما يذكره الآخرون يبتسمون، للوصول إلى هذه المرتبة الراقية يتطلب من الإنسان أن يعمل بجد في تقوية علاقته بربه أولا، وتصحيح أوضاعه مع الآخرين ثانيا، وبدونهما سيكون وضعه أمام العدل الإلهي حرجاً جدًّا، بالتأكيد لا أحد يرغب أن يكون في ذلك الموقف الصعب الرهيب، نسأل الله أن يمن على الإنسانية جمعاء بالتآلف الواعي والمحبة الصادقة والخير الوفير والعيش الرغيد وراحة البال.
إقرأ أيضا لـ "سلمان سالم"العدد 4919 - الأربعاء 24 فبراير 2016م الموافق 16 جمادى الأولى 1437هـ
رائع
تسلم استاذنا العزيز... بارك الله فيكم و نفع بعلمكم ...
أحسنت ..
طيب الله انفاسكم واراح الله بالنا وبالكم ونفع الله بعلمكم وعملكم .
احسنت بارك الله فيك...مقال جدا ممتاز