لطالما ردّ النظام الجزائري على الاضطرابات والاحتجاجات التي تحرّكها التظلّمات بانتهاج استراتيجية ذات شقَّين: القيام بعمليات قمع سريعة وإنفاق الأموال من أجل شراء مجموعات الضغط الأساسية التي تقف وراء الاضطرابات، بما في ذلك عاملو الخدمة المدنية، والنقابات (الخاصة بالمعلّمين وعاملي قطاع النفط والشرطة)، وجنرالات الجيش، والشباب العاطلون عن العمل. منذ نهاية الحرب الأهلية في البلاد في العام 2000، ساهم الإنفاق الاستراتيجي بشكل كبير في قدرة الحكومة على تهدئة مواطنيها من أجل الحفاظ على استقرار هشّ، في وقتٍ جرى تجاهل الدعوات المُنادية بالإصلاحات السياسية والاقتصادية. في العام 2011، أظهر النظام فعالية هذا المزيج من الأدوات – أي التكتيكات القمعية والإنفاق الاجتماعي – في نزع فتيل الاحتجاجات والاستياء العام إزاء الظروف الاجتماعية-الاقتصادية، ومستويات الفساد المرتفعة، وسوء الحوكمة، واستهتار بعض المسؤولين بالشعب، وغياب الأمل في المستقبل. بيد أن تدهور المالية في خضم انخفاض أسعار الطاقة العالمية، قد يعرّض استراتيجية الحكومة إلى الخطر.
الواقع أن الالتباس الذي يلفّ مستقبل مالية البلاد، والتحدّي الذي يفرضه على الاستقرار، يأتيان في فترة مضطربة للسياسة الجزائرية. فالتساؤلات لاتزال قائمةً حول خلافة الرئيس، فيما صحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي يتسلّم الحكم منذ العام 1999، آخذة في التدهور. وتُضاف إلى لغز الرئاسة الديناميكياتُ الضبابية بين الجيش، الذي لطالما اضطلع بدور قوي في السياسة، وبين الطبقة السياسية الهرمة، التي فقدت التواصل مع مواطنيها منذ وقت طويل. وقد أثارت البيانات التي تحدّثت مؤخراً عن أن دائرة الاستعلام والأمن الجزائرية ستخضع إلى إعادة هيكلة لتصبح مؤلّفةً من ثلاثة أقسام منفصلة، شكوكاً حول قدرة هذين الطرفَين الفاعلَين على الحفاظ على التوافق بينهما (وهو ركنٌ مهم من أركان الاستقرار). في غضون ذلك، لاتزال البلاد تعاني من استياء شعبي، واحتجاجات متواصلة ضد الخلل السياسي، وسوء الحوكمة الناتج عنه.
وعلى الرغم من الخيارات المحدودة أمام الحكومة، لاتزال هذه الأخيرة تتردّد في خفض الإنفاق الاجتماعي، والإعانات، وبرامج الرعاية الاجتماعية. ويعود الخوف من تبعات هذه الإجراءات إلى انهيار سعر النفط في العام 1986، والذي سرّع إجراء تخفيضات كبيرة للإعانات، ما أدّى إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر 1988 – وهي أحد العوامل التي ساهمت في نشوب الحرب الأهلية بين العامَين 1990-2000، والتي تسبّبت بمقتل 150 ألف شخص. وبالتالي لاترغب الحكومة في فتح النقاش حول الحاجة إلى خفض الإنفاق وإصلاح الإعانات، الأمر الذي يثير شكوكاً حول استقرار البلاد على المدى البعيد.
آفاق اقتصادية صعبة
يعتمد الاقتصاد الجزائري بقوة على عائدات الطاقة. والهبوط السريع في أسعار الطاقة منذ منتصف العام 2014 – من حوالى 100 دولار للبرميل إلى أقل من 40 دولاراً منذ بداية العام 2016 – أرهق مالية الجزائر إلى حدّ كبير. هذا وقُدِّر أن يبلغ النمو الاقتصادي الإجمالي في العام 2015 نسبة 2.8 في المئة، ليسجّل تراجعاً عن نسبة 4.3 في المئة في العام 2014، وفقاً لأرقام البنك الدولي من تشرين الأول/أكتوبر 2015. فضلاً عن ذلك، تراجعت إيرادات الطاقة بنسبة 50 في المئة إلى 34 مليار دولار في العام 2015، وقد تتراجع إلى 26 مليار دولار في العام 2016؛ في غضون ذلك، بلغ عجز الميزانية في العام 2015 حوالى 11.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي تقريباً ضعف ما كان عليه في العام 2014 (6.2 في المئة).
في العام 2013، وقبل هبوط الأسعار، سجّلت الطاقة نسبة 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الجزائر، و60 في المئة من عائدات الحكومة، وأكثر من 95 في المئة من عائدات التصدير في البلاد. والحال أن مدخول النفط والغاز في العقد الذي شهد ارتفاعاً في الأسعار، أتاح للنظام الحفاظ على اقتصاد مستقر (وإن بطيء النمو)، ومراكمة ما اعتُبِر لفترةٍ ثامن أكبر احتياطي من العملات الأجنبية في العالم، وتسديد رواتب قطاعٍ عامٍ متضخّم، والإنفاق بشكل كبير على المشاريع الحكومية وشبكات الأمان الاجتماعي، مثل الإسكان العام، والغذاء، والنقل، وإعانات الوقود، والقروض غير المكلفة. كما سمح للحكومة بتفادي الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي اشتدّت الحاجة إليها. إلا أن هذا الاعتماد على عائدات الطاقة جعل البلاد عرضةً إلى بيئةٍ تسودها أسعار نفط منخفضة لفترة مطوّلة.
الواقع أن تحديات المحافظة على عائدات صادرات الطاقة تسبق انهيار الأسعار، إذ أن الإنتاج الجزائري كان بدأ يتداعى أصلاً بسبب التنمية المتعثّرة للبنية التحتية، وغيابٍ للاستثمار الأجنبي. فبروز موارد نفطية جديدة في بلدان حيث المخاطر أقل (مثل الولايات المتحدة وكندا)، والتصورّات بأن الوضع الأمني الإقليمي يزداد سوءاً (وهو شعور عزّزه بشكل دراماتيكي الحادث الأمني الكارثي في العام 2013 في عين أميناس)، جعلا من الجزائر بيئةً صعبةً للاستثمار بالنسبة إلى الشركات الأجنبية. كما أن تردّد البلاد في إصلاح بنيتها التعاقدية في مجال النفط والغاز، يدفع الشركات أيضاً إلى استثمار مواردها التي تتضاءل بشكل متزايد في أماكن مربحة أكثر. فكما شرح توفيق حسني، نائب رئيس سابق لشركة النفط والغاز "سوناطراك" Sonatrach المملوكة للدولة، في أيلول/سبتمبر 2015، يدلّ تراجع الاحتياطيات وارتفاع الطلب المحلي على أن البلاد عاجزة عن رفع إنتاجها لتعزيز الصادرات. فضلاً عن ذلك، لايزال قطاع الطاقة في الجزائر يعاني من نقص الخبرات التقنية، وسلسلة من فضائح الفساد، وتغييرات متكرّرة للعاملين فيه. أما احتمال إنتاج الغاز الصخري، الذي لايزال في المراحل المبكرة من التطوير، فمن غير المحتمل أن يُحدِث أي فارق في مالية البلاد على المدى القصير، علماً أن الكثير من العقبات نفسها التي تواجه بقية القطاع تحدّ من التفاؤل بالغاز الصخري.
عجّلت الصعوبات التي يعاني منها قطاع الطاقة منذ العام 2014 قيامَ نقاشٍ واسعٍ في الحكومة حول تنويع الاقتصاد وإصلاح قطاع الطاقة. لكن الإجراءات قيد النظر لاتزال محدودة، إذ أن النظام يتخبّط في شكوكه السياسية الداخلية، وتحت ثقل التاريخ الجزائري المعاصر، الذي كان تأميمُ الموارد راسخاً فيه. وقد شدّد رئيس الوزراء عبد المالك سلال على أن الأزمة المالية الحالية تقدّم فرصةً لخفض الاعتماد على عائدات النفط والغاز – إلا أن تدابير قليلةً اتُّخِذَت في هذا الاتجاه. ففي نهاية العام 2015، أوصى المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي، وهو معهد أبحاث مرتبط بالحكومة، بأن تستثمر الحكومة في خمسة عشر قطاعاً استراتيجياً بغية تنويع الاقتصاد. وإحدى الخطوات المحدودة التي تنظر الحكومة في اتّخاذها هي قانون يرمي إلى تبسيط إجراءات الاستثمار للشركات الأجنبية، ولكنه لم يُعتمَد بعد.
في حين تبقى الإصلاحات والتنويع احتمالاً بعيد المنال، ليس أمام الحكومة من خيار إلا تعديل ماليتها للتكيّف مع عائدات أقل. ويقدّر صندوق النقد الدولي أنّ الجزائر تحتاج إلى سعر نفط يبلغ 96 دولاراً للبرميل من أجل موازنة ميزانيتها، وهو رقم يبدو مستبعداً في السنوات المقبلة. والواقع أن التراجع في أسعار النفط أدّى إلى انخفاض عائدات الدولة من التصدير، ما أسفر عن عجز تجاري بلغ 12.62 مليار دولار من كانون الثاني/يناير إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2015. في آب/أغسطس 2015، حثّ وزير الطاقة الجزائري صالح خبري منظمة الدول المصدّرة للبترول "أوبك" على التحرّك من أجل معالجة الهبوط الحاد والمتواصل في أسعار النفط. بيد أن الجزائر لاتمتلك تأثيراً كافياً في المنظمة أو على البلدان المنتجة الأساسية لإجراء خفضٍ للإنتاج بهدف المساعدة في رفع الأسعار.
في غضون ذلك، اعتمدت الجزائر على احتياطياتها لتمويل ميزانيتها. وقُدِّرَت احتياطيات العملات الأجنبية بـ201 مليار دولار في العام 2013، مايساوي حوالى ثلاث سنوات من الواردات. وكانت الاحتياطيات تراجعت إلى 159 مليار دولار بحلول حزيران/يونيو 2015، وفقاً لبنك الجزائر، وإلى 151 مليار دولار بحلول نهاية العام؛ ويُتوقَّع أن تتراجع إلى 121 مليار دولار بحلول العام 2016. في أيلول/سبتمبر 2015، حذّر حاكم المصرف المركزي محمد لكصاسي من خطورة الوضع، مشيراً إلى أنه "بين نهاية حزيران/يونيو 2014 ونهاية حزيران/يونيو 2015، تقلّصت احتياطيات النقد الأجنبي بمقدار 34.2 مليار دولار، بسبب تأثير الصدمة الخارجية على ميزان المدفوعات الخارجية للجزائر، منذ الربع الرابع للعام 2014". وربما سعياً إلى إظهار ثقةٍ وسيطرةٍ في خضم المخاوف المتزايدة حول الميزانية، وترسيخ شعورٍ أكبر في المواطنين بالأهمية الملحّة للوضع في الوقت نفسه، أعلن سلال في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 أنه "على الرغم من التراجعات الكبيرة، لاتزال مستويات احتياطيات النقد الأجنبي وموارد صندوق ضبط الإيرادات [لتثبيت النفط] مُرضية". لكن على الرغم من تفاؤل رئيس الوزراء، يبدو مستقبل الاحتياطيات النقدية للجزائر غير مؤكَّد في أحسن الأحوال، وعلى المدى القصير تواجه البلاد أزمة مالية وموارد مالية متضائلة تُجبِر الحكومة على إعادة النظر في خطط الإنفاق التي وضعتها.
خيارات محدودة أمام الحكومة
بعد أن زعمت الحكومة بدايةً أنها تستطيع التعامل مع الهبوط في أسعار النفط من دون إجراء تخفيضات كبيرة في الميزانية، بدأت تحذّر المواطنين من وضع اقتصادي صعب مقبل في أوائل العام 2015. فخفّضت الجزائر الإنفاق بنسبة 1.3 في المئة خلال العام عند هبوط أسعار النفط.
بعد أن جهدت الحكومة الجزائرية للاستجابة لهبوط أسعار النفط والبيئة المالية الصارمة بشكل متزايد، استقرّت على استراتيجيةٍ في نهاية العام 2014: نقاشات نظرية للتنويع الاقتصادي وسياسة "تقشّف"، عرّفها وزير المالية عبد الرحمان بن خالفة على أنها "ترشيد الإنفاق". هذا التوصيف غير الملائم للاستراتيجية هو نتيجة حرص الحكومة على تجنّب استخدام عبارات مثل "خفض الإنفاق"، أو "إصلاح الإعانات"، أو "القيود على الواردات"، لئلا تُقلِق السكان أو تظهر بأنها تُناقِض التقليد الاشتراكي في البلاد. ووفقاً للإعلام المحلي، يُتوقَّع أن تشكّل البرامج الاجتماعية والإعانات 27-28 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2016. وكان الإنفاق الاجتماعي (على الأمن الاجتماعي، والرعاية الصحية، والتعليم، والإعانات الظاهرة) بلغ في العام 2015 نسبة 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وستبقى الإعانات – التي حدّدها صندوق النقد الدولي بـ18.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الجزائري في العام 2012 – كما هي عليه إلى حدٍّ كبير، باستثناءٍ صغيرٍ يطال خطط إعادة هيكلة إعانات الوقود والكهرباء لبعض المستخدمين. لكن يُتوقَّع أن تستمر كلفة إجمالي الإعانات في الارتفاع، الأمر الذي يشير إلى مدى تردّد الدولة في استخدام هذه الأداة.
مع ذلك، أُجبِرَت الحكومة على المناورة بشكل خلّاق لإجراء بعض التخفيضات. فبالنسبة إلى ميزانية العام 2016، التي جرى التوقيع عليها في 30 كانون الأول/ديسمبر، أعلن رئيس الوزراء سلال عن خفض إجمالي للإنفاق بنسبة 9 في المئة تقريباً، سيطال مشاريع البنية التحتية. كما تتضمّن الميزانية زيادات في ضرائب الدخل، وضرائب الأراضي والممتلكات، وفي تكاليف بعض الخدمات، مثل رسوم تسجيل المركبات وجوازات السفر البيومترية.
هذه الإجراءات تعقب أخرى مماثلة اتُّخِذَت في العام 2015، وشملت تجميداً للتوظيف طال 41 ألف وظيفة كانت الحكومة تنوي أن تملأها في القطاع العام (ماعدا الطاقة والرعاية الصحية)، ويُتوقَّع أن يزيد معدلَ البطالة الذي سجّل 11.2 في المئة في أيلول/سبتمبر 2015 وفقاً للتقديرات الوطنية. أما القطاعات الأكثر تأثّراً بذلك فهي التعليم، حيث جُمِّد 15 ألف منصب، والإدارة المحلية، حيث جُمِّد 13 ألف منصب. كذلك علّقت الحكومة في العام 2015 خططاً عدّة كبيرة في مجال البنية التحتية، بما في ذلك أربعة من أصل ثمانية مشاريع نقل، ومشاريع بناء أخرى اعتُبِرَت غير ملحّة. وستتواصل البرامج القائمة أو التي أُعطيَت الموافقة للبدء بها، مثل بناء ميناء جديد في الحمدانية، مع أن الحكومة لم تحدّد بعد تاريخاً للانتهاء منها. وحرصاً على عدم إخافة السكان، يُطَمئِن النظام الجزائريين بأن هذه المشاريع لم تُلغَ، ولكنها ببساطة عُلِّقَت في الوقت الراهن.
وبغية تبديد المخاوف إزاء التخفيضات، استمرت الحكومة في العمل على عددٍ من المشاريع الكبيرة التي تلبّي الاحتياجات الاجتماعية، ولاسيما نقص المساكن. ومن بين هذه المشاريع مشروع نقل 75752 أسرة تعيش في مواقع مؤقّتة في الجزائر العاصمة (مثل مدن الصفيح وأسطح الأبنية السكنية). هذا ولاتزال بعض برامج الترميم المدني لـ55302 شقة سكنية و792 مبنى في العاصمة قائمة، ويُرجَّح أن تُطبَّق برامج مماثلة في مدن رئيسة أخرى. كذلك أُبقي على مشاريع إضافية، مثل توفير الكهرباء والغاز للأُسرَ الريفية، واستكمال الطريق السريع بين الشرق والغرب، وافتتاح سكة حديدية تربط بئر توتة في جنوب ولاية الجزائر عبر سيدي عبدالله بزرالدة في الجنوب الغربي.
ويحاول المسؤولون تحقيق توازن صعب، محذّرين من التخفيضات الاقتصادية ومعزّزين الاستمرارية في الوقت نفسه، الأمر الذي غالباً مايبعث بإشارات متضاربة إلى السكان. فالخطاب الذي يرمي إلى طمأنة الجزائريين متناقضٌ في أغلب الأحيان، والبيانات الوزارية حول خطط الحكومة مربكة. على سبيل المثال، تحدّث رئيس الوزراء عبد المالك سلال عن "سنوات قاسية" تنتظر البلاد، إلا أنه قلّل من خطورة الوضع بالقول إن "للحكومة هامشاً مالياً... والتشاؤم مُدمِّر". وأحياناً يزعم أحد المسؤولين أن مشروعاً سيمضي قدماً، في حين يعلن شخص آخر في الوزارة نفسها أن المشروع أُرجِئ. تلك كانت الحال عندما صرّح وزير الطاقة صالح خبري في تموز/يوليو 2014 أن المشاريع المرتبطة بالطاقة المتجدّدة سيتم الإبقاء عليها، فيما زعم المدير التنفيذي لشركة "سونلغاز" Sonelgaz المملوكة للدولة، في تشرين الأول/أكتوبر 2015، أن المشاريع ذات الصلة مُجمَّدة بسبب خفض الميزانية.
استقرار بأي ثمن؟
على الرغم من منافع نظام الرعاية الاجتماعية، ثمة توترات كبيرة واستياء في أرجاء البلاد. فالاحتجاجات هي أمر اعتيادي في الجزائر، إذ أفادت الشرطة عن قيام 6200 احتجاج في الأشهر الستة الأولى من العام 2015. وفي 17 كانون الثاني/يناير، تظاهر مئات المواطنين من مدينة تيقزيرت في الشمال الشرقي ضد ارتفاع تكاليف المعيشة، وطالبوا الحكومة بمعالجة الارتفاع الشديد في أسعار الغذاء. بعد يومَين، تظاهر شباب ضد الظروف المعيشية السيئة في ولاية باتنة في شمال شرق البلاد، ولم يجرِ احتواء الاحتجاج إلا بعد تدخّل قوات الدرك الوطني. هذا وأدّت احتجاجات عمّال الشركة الوطنية للسيارات الصناعية، في الأول من كانون الأول/ديسمبر، ضد تأخّر الرواتب، إلى عرقلة السير بين بلديّتَين في العاصمة، وانتهت بسقوط عدد من الجرحى. تلك كانت الحال أيضاً في 2 كانون الأول/ديسمبر، حين طالب عمّال من مؤسسة النقل الحضري وشبه الحضري لمدنية الجزائر بظروف عمل أفضل وإسكان عام لأُسَرهم. وفي 9 كانون الأول/ديسمبر، تظاهر مندوبو المناطق في المجلس الوطني لأساتذة التعليم العالي ضد ظروف عملهم السيئة، وتدهور قدرتهم الشرائية، والتأخير في تخصيص المساكن الشعبية.
لكن الاحتجاجات في حدّ ذاتها ليست بالضرورة معياراً لملاحظة عدم الاستقرار في الجزائر، إذ أن النظام كان بارعاً إجمالاً في قمعها. لكن نقص الأموال من شأنه أن يقيّد قدرة النظام على الاعتماد على الإنفاق كاستجابةٍ للاحتجاجات. لذا، يختبر النظام فتح المجال السياسي بشكل طفيف، أملاً في إحداث منفذٍ لتنفيس الاستياء الشعبي، كما أظهرت التعديلات الدستورية التي رُفِع النقاب عنها في 5 كانون الثاني/يناير. هذه التغييرات المُنتظَرة على نطاق واسع توفّر تدابير خجولةً لتقييد السلطات التنفيذية، ومنح الأحزاب السياسية في البلاد بعض المجال للتنفّس.
مع ذلك، ليست التعديلات الدستورية إلا تدبيراً تخفيفياً محدوداً، ويُرجَّح أن تعاني الحكومة من اضطرابات أكبر، إذ أن خفض الإنفاق يضع عبءاً أكبر على كاهل السكان. وإذا ما ازداد الاضطراب الشعبي، فمن المرجّح أن يلجأ النظام – الذي عجز عن الاستمرار في شراء الاستقرار – إلى المزيد من القمع، وفي هذه الحالة سيضطلع الجيش بدور قوي في الحفاظ على السلم. يُشار إلى أن الجيش الجزائري أصبح منظمة حديثة متطورة وحسنة التجهيز، تضمّ قوة أمامية فاعلة من 512 ألف جندي، وقوة احتياط من 400 ألف عنصر. كما أنه يتمتّع بخبرة واسعة في عمليات مكافحة التمرّد، ويحظى بدعم قوات الدرك الوطني، والمديرية العامة للأمن الوطني، وقوات الشرطة الأخرى.
إذن، ينبغي إعادة النظر في الافتراضات التي لطالما سادت حول استقرار الجزائر. فالحكومة لايمكن أن تُبقي على المستوى نفسه من الإنفاق الاجتماعي لتهدئة السكان. ودور الجيش في الحفاظ على الاستقرار يمكن أن يزداد، مامن شأنه أن يغيّر الديناميكيات السياسية العسكرية-المدنية. وأخيراً، قد لايعود صحيحاً بعد الآن مدى تردُّد السكان في الانتفاض. إذ أن الحرب الأهلية الجزائرية المؤلمة في تسعينيات القرن الماضي تغيب تدريجيّاً، عاماً بعد عام، عن ذاكرة الشباب من السكان، الذين تتراوح أعمار حوالى 30 في المئة منهم مابين خمسة عشر وتسعة وعشرين عاماً.
المرحلة المقبلة ستضع هذه الافتراضات وقدرةَ الحكومة على التكيّف معها، قيد الاختبار.
Intissar Fakir، دالية غانم-يزبك