يقول الشاعر العربي:
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم .. وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ
هذا أكثر انطباقا على بطرس بطرس غالي الذي انتقل إلى ملكوت السماء العليا في (فبراير/ شباط 2016) بعد حياة حافلة بالعمل والانجاز في ميادين الفكر والسياسة والدبلوماسية والاكاديمية وتتلمذت على يديه أجيال كثيرة، وقدم انجازات باهرة، وتعرض لحملات ظالمة واشادات كثيرة . إ
إنه ابن مصر البار الذي لم يسئ إليها لحظة واحدة والذي لم يتوان عن خدمتها طوال حياته، ودافع عن عروبتها، وعدم انحيازها وافريقيتها، بل واسلاميتها وفرعونيتها في شتي المحافل الوطنية والدولية.
بطرس بطرس غالي شغل مناصب عديدة منها وزير دولة للشئون الخارجية، ونائب رئيس الوزراء للشئون الخارجية، ورئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان وأمين عام الأمم المتحدة، وأمين عام الفرانكفونية وأستاذ العلوم السياسية والقانون الدولي، واتسم بانه من الذين يعملون ليلا ونهارا، بدأب ونشاط أكاديمي وسياسي ودبلوماسي على العديد من الجهات حتى اللحظة الأخيرة من عمره.
لقد تميز بطرس غالي بالعمل في أصعب المواقف وأكثر الأزمات حدة في تاريخه، من أجل مصر التي أحبها وعاش على ترابها وأصر على أن يموت على أرضها، ومصر بدورها لم تتوان في مساندته في المناصب كافة التي تولاها في أكثر المواقع مكانة على المستويين الوطني والدولي، ومنها مبادرته للحصول على منصب أمين عام الأمم المتحدة، حيث كان أول عربي وإفريقي يتولى هذا المنصب.
لقد آمن بطرس غالي بوطنه وكان شجاعًا في ذهابه للقدس مع الرئيس الراحل أنور السادات، كما كان شجاعا في تعامله مع الأطراف العربية والأميركية كافة وهو بحق يعد ابن إفريقيا البار، فقد بذل جهدا كبيرا للإفراج عن الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا، وزار جميع الدول الإفريقية، ومن مبادراته منظمة «الاند وجو» لدول حوض النيل، وإنشاء الصندوق المصري للتعاون الإفريقي، والذي يعد مؤسسة مهمة في مساعدة الدول الإفريقية وتزويدها بالخبرات العلمية والفنية في العديد من المجالات، قبل أن تستيقظ دول كبرى وتنشئ منتديات وصناديق للتعاون مع إفريقيا، كان بطرس غالي أستاذا متميزا واهتم بإفريقيا كأستاذ، كما كانت له مبادرات أكاديمية وبحثية عديدة منها إنشاء مجلة «السياسة» الدولية، ومجلة «الأهرام الاقتصادي»، وساهم بكتاباته في المجلة «المصرية للقانون الدولي»، والمجلة «المصرية للاقتصاد والتشريع» وغيرهما من المجلات العلمية والأكاديمية المصرية والدولية.
بطرس غالي الأستاذ تشرفت بأن أكون تلميذا له منذ أن التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية العام 1961، وكان له فضل المساهمة مع الرعيل الأول من الأساتذة محمد زكي شافعي، وخيري عيسى، وعبدالملك عودة، ووهيب مسيحة، وأحمد سويلم العمري، وآخرين في إنشاء هذه الكلية، وكان الرئيس الثاني لقسم العلوم السياسية في الكلية، كما استمرت علاقتي به، وتوثقت بدرجة أكبر خلال دراستي للماجستير والدكتوراه، وكنت أستشيره في بعض ما كنت أقابله من مشكلات بحثية على رغم أنه لم يكن مشرفا على إعداد الماجستير أو الدكتوراه ، وزار النرويج؛ لحضور مؤتمر عن القانون الدولي في منتصف سبعينات القرن العشرين عندما كنت عضوا في سفارة مصر بالنرويج العام 1975-1979، ورافقته طوال الندوة مع السيدة الفاضلة زوجته ليا هانم، وأقمت على شرفهما حفل عشاء، دعوت له نخبة من أساتذة القانون والعلوم السياسية والمتخصصين في الشرق الأوسط، كما شاءت إرادة الله أن أكون ضمن الفريق الذي عمل جاهدا لإقناع الدول وخاصة أعضاء الأمم المتحدة وعلى وجه الخصوص أعضاء مجلس الأمن في العام 1991، إذ كنت قائما بالأعمال للوفد المصري ثم نائبا لرئيس الوفد نبيل العربي، وقمنا معا باللوبي والتنسيق مع مندوبي الدول، ونوابهم وخاصة مع الوفد الفرنسي في الأمم المتحدة والوفود العربية والإفريقية والإسلامية، وقمت بالرد على كثير من التساؤلات الصحافية عن خبرته وعلمه في المجالات الاقتصادية الاجتماعية، ودافعت آنذاك عما طرح من تساؤلات عن كونه كبيرا في السن، وكان آنذاك في أوائل السبعينات من العمر، وبارك الله فيه وامتد عمره حتى توفى وهو يناهز الرابعة والتسعين.
من مواقف بطرس غالي التي لا تنسى دفاعه عن القضية الفلسطينية، وقد دفع ثمنا باهظا لمواقفه هذه عندما أصر على نشر الأمم المتحدة تقريرها عن مذبحة قانا التي قامت «إسرائيل» على رغم اعتراض أميركا صاحبة الفيتو على نشر التقرير، وطلب دول أخرى بل و»اسرائيل» واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة عدم نشره؛ لكنه كأمين عام وصاحب مبدأ رفض الانصياع لإرادة الدول العظمى، دفع ثمنا بعدم التجديد له في المنصب، وأصبح فريدا في كونه الأمين العام الوحيد حتى الآن الذي حصل على فترة واحدة، وساومته أميركا ودول أخرى على تجديد نصفي للمدة الثانية، فرفض بإباء وشمم إما مدة كاملة أو عدم التجديد وهو ما كان.
تشرفت بأن زار بطرس غالي الصين عندما كنت سفيرا ورافقته في زياراته ورحلاته في عدة مدن وأقاليم في الصين، وأقمت حفل عشاء على شرفه في دار السفارة بحضور عدد من الشخصيات الصينية المهمة وسفراء الدول العربية والأجنبية وأساتذة جامعات، ونشر له كتابان مترجمان للغة الصينية، الأول: عن رحلة القدس مع الرئيس السادات، وقد كتب مقدمة النسخة المترجمة للصينية نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية الصين تشيان تشي تشين Qian Qichen. أما الكتاب الثاني فكان عن تجربته في الأمم المتحدة وقضاياها وتشرفت بموافقته على أن أقوم بكتابة مقدمة الطبعة الصينية من ذلك الكتاب، وكنت صريحا في كتابتي، وجريئا في تحليلي لمسيرته الأكاديمية والسياسية، وعندما عرضتها عليه قبل النشر، لم يغير منها كلمة واحدة، فازداد إعجابي به وبحكمته واحترامه للكتابة العلمية. وظللت على تواصل معه حتى الفترة الأخيرة إذ كنت عضوا في المجلس
القومي لحقوق الإنسان لمدة ست سنوات من 2003 إلى 2009 وكان يتولى رئاسته، كما رافقته في زياراته للبحرين لحضور بعض المؤتمرات الدوليةـ منها مؤتمر عن الاتجار في البشر، وكان على رغم كبر سنه يصر على البقاء في قاعة المؤتمر للاستماع لمداخلات المشاركين كافة فيه مهما تكن طبيعة تلك المداخلات ومستوى المتداخلين.( يتبع).
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4916 - الأحد 21 فبراير 2016م الموافق 13 جمادى الأولى 1437هـ