يتابع الشارع البحريني بكامل اطيافه وبكل ترقب ما أثير حول إفلاس الهيئتين العامة للتأمينات الاجتماعية وصندوق التقاعد. تلك القضية التي تعد من أخطر وأهم القضايا التي طرحت في الفترة الأخيرة والتي ربما لم يستوعب المواطنون قدر خطورتها بعد، أما لعدم العمل على ايصالها بالمستوى المطلوب أو لمحاصرتها في أروقة دوائر النخبة التي ترى ان ذلك سيعزز من مكانتها وحصر بريق التعاطي بها في نطاق معين، هذا على المستوى الشعبي، أما محاصرة الموضوع على المستوى الرسمي فهي مسألة لم تثر تعجب أي مراقب للأداء الرسمي الذي ظل يعمل بالطريقة نفسها والاسلوب الذي درج عليه طوال خمس وثلاثين عاما مضت، ولا نعتقد ان أية وقفة موضوعية من قبل أي مراقب للمشهد الإداري ستقفز على هذا الواقع ونتوقع ان تتغير تلك المنهجية بين عشية وضحاها وتنطلق في عالم من الشفافية وتوظف أجهزتها الاعلامية لتوضيح أي خلل أو رصد أي اخفاق.
الا ان ما تجدر الاشارة إليه ويوجب الاشادة والاحترام هو ان اولى الشرارات التي بدأت بها هذه القضية - والتي لا يتردد البعض في تسميتها أزمة انطلقت على لسان رئيس احدى الهيئتين وهو جزء ومرتكز اساسي من السلطة التنفيذية (الحكومة) حين طرح امام مجلس النواب تلك الاستغاثة المشهورة، ذلك النداء الاخير الذي بين انه آخر نداء بعد ان بح صوته من نداءات الاستغاثة المتكررة على مدى السنوات الماضية حين طرح الموضوع على مجلس أو مجالس الشورى، اذ شكل هذا الموقف بادرة ايجابية بوزن خاص، وتأتي هذه القيمة الخاصة لتلك المبادرة كون الموضوع كبيرا ومعقدا ويطال جميع من يعيشون على أرض المملكة (شعبا وحكومة) وتكفي الجرأة والمبادرة في طرحه ان تحسب لذلك المسئول تجعله متميزا وبكل معنى الكلمة، اذ درج المنتسبون للاجهزة الحكومية على تلميع الصورة دائما ونفي أي خلل أو اخفاق في أي مرفق أو مؤسسة.
كما لا يفوت على المراقب الاشادة بتلك العقول التي تلقفت تلك النداءات الصادقة والتي انطلقت بشكل تلقائي في قاعة المجلس النيابي لتلتقط تلك الاشارة في زحمة الخطابات الانشائية التي تنطلق من هنا وهناك. وبالتالي العمل على متابعة ذلك الخيط لترتيب الموضوع والعمل على اعداد ملف يعد من أكثر الملفات أهمية وحساسية بكل المقاييس.
وهنا لابد لنا من تأكيد أهمية النقطتين الماضيتين، فالاولى تشكل منعطفا في التعاطي مع ما يمكن ان نسميه أجندة الرقابة الشعبية، اذ ان من علّق الجرس - بحسب تعبير الوزير الشعلة - هو ممثل للهيئة التنفيذية، اذ بادر بطرح القضية على المجلس قبل ان يبادر المجلس بطرحها، وهذا مؤشر يجب التوقف عنده، اذ ينم عن توجه ايجابي يستحق الاشادة والاحترام، ومن ناحية أخرى فإن التقاط تلك الاشارات وحساسية وفن الاصغاء والتحليل صفة مهمة ومطلوبة لمن اوصله المواطنون لتلك المواقع، وربما في ظروف المرحلة التشريعية الحالية وما عليها من ملاحظات، تكون هذه الصفات المميزة هي التي تقرر وبشكل كبير فاعلية وهامش العمل والمناورة الفاعلة، وبقدر ما تتوافر تلك القدرة على التقاط اشارات قد تنطلق من هنا أو هناك وان كانت خافتة أو بعيدة وتتبع تلك الاشارات... ستتوافر فرص التعاطي الجاد وتفعيل الدور الذي يفترض ان يمارس تحت قبة البرلمان.
ومن ناحية أخرى علينا ألا ننسى الاشادة بموظفي الهيئتين الذين تعاملوا بكل ايجابية وتعاون في توفير الوثائق والمستندات وجميع المعلومات التي طلبت من قبل فريق «لجنة التحقيق» الذي تشكل من اعضاء مجلس النواب والذي عمل على مدى شهور في دراسة وتحليل آلاف الملفات التي تغطي فترة لا تقل عن ربع قرن من العمل في الهيئتين ولاشك في انه لولا تعاون المسئولين والموظفين في الهيئتين لما توافر ذلك الكم الهائل من المعلومات والحقائق التي اعتمد عليها الاعضاء في رفع تقريرهم الذي اتسم بقدر كبير من المهنية والموضوعية كانت محل اشادة من المسئولين في السلطة التنفيذية نفسها، وهذا جهد موضع كل تقدير واحترام وينم عن روح المسئولية الوطنية التي تحلى بها الفريق المذكور.
وهنا ايضا يجب التوقف عند هذه الظاهرة من التفاني والاخلاص في اداء المهمة، اذ عرفنا ان بعض الاجتماعات كانت تستمر حتى الساعات الأولى من الصباح، كل ذلك في سبيل رصد وتحليل اداء الهيئتين والموضوعية تفرض على المتابع لهذا الشأن تقديم كل الشكر والتقدير على هذا الاداء المتميز الذي يجب ان يسجل لاعضاء فريق التحقيق.
هذا مع ملاحظة ما ألقت المقاطعة من ظلال على مستوى اعضاء المجلس الممثلين للدوائر التي سادتها اجواء المقاطعة على الاقل... فالاخلاص والهمة وتحمل المسئولية الوطنية وارضاء الضمير لا شك تمثل عوامل اساسية في المستوى الاداري لأي موقع... وتميز من يتحلى بها عن الآخرين الذين ربما يتوقف برنامجهم عند الوصول الى هذا المقصد أو ذاك... فما بالك والمكان موقع تشريع ورقابة؟!
وعودة الى الملف ذاته لالقاء الضوء على بعض المفاصل المهمة فيه، فالموضوع له أهمية اقتصادية كبرى في بلد بحجم البحرين ذات الامكانات المالية المعروفة، اذ ان مجموع ثروة الهيئتين يصل الى ألف مليون دينار، واذا اردنا ان نقرب هذا الرقم الى المواطن، فاننا نتحدث عن ضعف موازنة المملكة السنوية! تصور هذا المبلغ الذي يوفر امكانات مالية واستثمارية ضخمة... مثل هذه الامكانات الحالية والتي توافرت من الفلسفة نفسها (الضمان الاجتماعي) والتي كانت تدار بشكل علمي ومدروس استطاعت ان تبني واحدا من أهم الاقتصادات في العالم وهو اقتصاد سنغافورة التي يشهد لها الجميع، فكيف تعطل مثل هذه المشروع الناجح هنا، حين حقق كل تلك النجاحات والانجازات هناك!
لقد سمعنا كثيرا ومنذ عقود ان البحرين ستصبح سنغافورة الخليج وهذا أمر مشروع جدا لوجود كثير من أوجه التشابه بين البحرين وسنغافورة... ولكن يبدو اننا نأخذ المشروعات نفسها ولكن ومع كل اسف ولاسباب كثيرة لا تحقق النتائج نفسها.
وهذا يطرح السؤال الأهم: أين الخلل؟ وما هي الأسباب؟
لقد طرحت بعض الاقلام المخلصة - والتي اصبحت نادرة في هذه الايام مع كل أسف ومن خلال ما توافر من معلومات توصل اليها النواب في تقريرهم الذي ينتظر الجميع مناقشته في جلسة علنية وعلى الهواء مباشرة، كما يطالب الكثير من المواطنين الذين وضعوا ايديهم على قلوبهم - عدة ملاحظات على اداء الاجهزة المسئولة عن الهيئتين، والذي تندرج اساسا تحت عنوانين رئيسيين:
الأول: مستوى الكفاءة الادارية والخبرة المتخصصة للطاقم المسئول عن ادارة هذه المبالغ الضخمة والتي قلنا انها في مستوى موازنات دول، وبالتالي الاسلوب الذي اديرت به هذه الاستثمارات والمعايير التي بنيت عليها سياسة الاستثمارات في الداخل والخارج.
والثاني: مدى تدخل الحكومة او أية اطراف اخرى في توجيه سياسة الاستثمارات والمعاملات المالية للهيئتين على مدى السنوات الماضية، التي غابت فيها عن الساحة السياسية السلطة التشريعية والرقابية المستقلة لتحول مسئوليات هذه السلطة الى الحكومة نفسها بحسب قرار صدر العام 76.
والعنوان الاول يثير مسألة معايير التوظيف وتبوأ المسئوليات التي سادت على مدى السنوات الماضية، اذ خضعت التعيينات والتوظيف وإدارة الكثير من المؤسسات والهيئات الى اعتبارات متعددة لم تكن الكفاءة في مقدمتها في كثير من الاحيان، ما ساهم في خلق بيئة ادارية مختلة ساهم غياب جهات رقابية مستقلة في جعلها بيئة نموذجية لتشجيع اصحاب الضمائر الضعيفة والميتة في استفحال الفساد الاداري والمالي... وما استغاثة المسئول الاول في البرلمان إلا علامة على مدى التدهور الذي وصلت اليه الحال هناك.
ولاشك في اننا نتوقع ان يكون موضوع توافر الكفاءة والامانة في المسئولين عن ادارة الهيئتين في أعلى قائمة التوصيات التي سيطرحها التقرير المرتقب... فهذا اجراء مهم وخطوة استباقية ضرورية لوقف اي انزاف او استغلال للمواقع والمناصب الحساسة.
أما العنوان الثاني فلاشك ان غياب البرلمان أو أية سلطة رقابية مستقلة أخرى وكون السلطة التنفيذية هي اللاعب الاساسي في المشهد السياسي طوال السنوات السابقة يجعلها معنية بشكل أو بآخر بأداء هاتين الهيئتين بل انه من الصعب جدا تخيل العكس!
ففي ظل الظروف التي سادت في الفترة السابقة لا يمكن ان تستمر اية مؤسسة حكومية بمعزل عن التوجيه بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، وهذا واجب الحكومة اصلا في مثل تلك الظروف ولا نرى انه يثير اية حساسية بل انه موضع تقدير اذا ما اخذنا في الاعتبار ما تطرقنا له تحت العنوان الاول، ولذلك فإننا لا نفهم المسارعة في نفي هذا الموضوع من قبل بعض المسئولين.
إذ لاشك في انه بفضل التوجيهات الحكومية قد حققت الهيئتان ارباحا وعوائد مالية كثيرة في فترة من الفترات والتي يجب ان نشيد بها ونشكر الحكومة عليها. ولاشك انه لو تواصلت تلك النجاحات ووصلت لما وصلت اليه سنغافورة لما تحدث أحد، ولكان الاداء موضع اطراء واحترام.
لسنا في صدد تأصيل حال التشاؤم أو رسم صورة مظلمة لأداء الحكومة التي لا يمكن لأي منصف ان يغفل أو يقلل من انجازاتها أو نجاحاتها... ولكننا في صدد دراسة اسباب اخفاقات حصلت في موقع ما، نعتقد ان مسئوليتنا الوطنية تحتم علينا البحث عنها وتحليلها وخصوصا انها تتعلق بحقوق ايتام وأرامل ومتقاعدين حصدو أعمارهم في المساهمة في تطوير وتنمية هذه الارض الطيبة... إنها فرصة لتضافر كل الجهود والعقول لدراسة ما حصل ومحاولة ارجاع المؤسستين الى ما نطمح اليه جميعا من قوة واستقرار مالي، لتشكلا مخزونا وطنيا يضمن كرامة واستقرار حياة المواطنين جميعا في قابل الايام... لاشك ان الاخطاء تحصل في كل مكان ولكننا متفقون جميعا على ان اكبر الاخطاء هو المجادلة وانكار الاخطاء أو طمسها لأن ذلك يؤدي الى اخطاء اكبر تصل الى حد الكوارث جنبنا الله جميعا اياها... ومن هنا فإن اهمية الاسلوب الذي ستتعاطى به الحكومة مع هذه القضية لا يقل أهمية عن مضمون التقرير مهما احتوى من حقائق ومفارقات... لأن الاسلوب سيحدد مدى الحيوية والقدرة على تجاوز مثل هذه القضايا وتحويلها الى مكامن قوة يتسلح بها الشعب والحكومة في مواجهة أية مشكلات أو هزات مقبلة... وهي هزات يعتقد المتخصصون اننا لسنا بعيدون عنها... وخصوصا بعدما حصل في مدينة بم الايرانية! اذ انه ليس كل الهزات أرضية كما يقولون... وسمو ولي العهد قد حذرنا من واحدة بعد عشر سنوات... أليس كذلك؟
إقرأ أيضا لـ "مجيد السيد علي"العدد 491 - الجمعة 09 يناير 2004م الموافق 16 ذي القعدة 1424هـ