الحراك التاريخي للمجتمعات في خضم مسيرة تطورها الحضاري منذ بدايات تكون الجماعات البشرية في المراحل التاريخية لتطور الأمم والشعوب أكد القوة الفعلية للمجتمع المدني في صون وجود تلك الجماعات والمساهمة في التغيير اﻻجتماعي كقوة مؤثرة في منظومة الخطط التنموية للدول وبناء السلوك البشري الرشيد بمختلف مظاهره، وصار في المرحلة المعاصرة الأداة الرئيسة للحراك اﻻجتماعي الموجه في أهدافه للبناء والتنمية الاجتماعية.
وتختلف الطبيعة التنظيمية للعمل المدني بين مرحلة تاريخية وأخرى، وفق طبيعة متطلبات المرحلة ومستوى تطور وعي فئات المجتمع المحلي، وعلى رغم طبيعة الاختلاف وبساطة وعفوية العمل المدني الذي ميز طبيعة نشاطات المجتمعات المحلية في المراحل التاريخية القديمة فإن ما هو مؤكد هو أن طبيعة مبادئ العمل المدني في جميع المراحل متوافقة في المضمون والجوهر، وارتكزت على قيم المبادرات والقناعة والمسئولية الذاتية في المساهمة الفعلية في عملية البناء وإنجاز الأهداف التنموية للمجتمعات وصون وجودها المشترك.
المرحلة المعاصرة يشهد العمل المدني فيها متغيراً نوعيّاً في طبيعة ومتطلبات أهدافه، ويتفاعل في ظروف أكثر تعقيداً نتيجة جملة من العوامل المحفزة من جانب والمعطلة من جانب آخر، وترتبط تلك العوامل بمجموعتين متمايزتين في طبيعتهما النوعية واﻻجرائية، وتتمثل المجموعة الاولى في العناصر الذاتية لنوعية الأفراد ومدى تبنيهم مبدأ النزاهة والشفافية في ممارسة العمل المدني، وأيضًا مدى جاهزيتهم والتزامهم بقيم العمل المدني ووعيهم بمسئولياتهم في ضرورة المساهمة في دعم خطط التنمية وانجاز أهداف التنمية المستدامة في بلدانهم، وتتمحور المجموعة الثانية في القرارات والأنظمة للدول ومدى استجابتها لمتطلبات العمل المدني ومؤسسات حفز مساهماته والارتقاء بفاعلية نشاطاته وتقدير واحترام جهوده، وكذلك مدى مراعاته في تأكيد وتشريع حقوق المتطوع ومسئوليات وواجبات المنظمات والأفراد الناشطة في حقل العمل المدني.
الدول المتمدنة التي تضع القيم الحضارية المرتكزة على مفاهيم الرؤية الرشيدة ضمن فلسفتها الاجرائية والتشريعية، واعتبارها المعيار الرئيس والموجه لمفاهيم تنظيم العلاقة مع منظمات المجتمع المدني، تبنت منظومة من القيم والقواعد القانونية التي شَرعت بموجبها مقومات ضمانات صون حقوق المجتمع المدني كشريك متساوٍ في الحقوق والواجبات في تأكيد مسئولية المساهمة في صناعة القرار الوطني الاستراتيجي، وذلك يمثل خريطة الطريق لإنجاز أهداف التنمية المستدامة، وعلى العكس من ذلك تشهد بعض البلدان تراجعاً ملحوظاً في السياسات الموجهة لبناء القواعد المؤسسة والمحفزة لتفعيل مساهمات المجتمع المدني في إنجاز أهداف التنمية المستدامة، وفي سياق ذلك النهج تسند مهام الإدارات المشرفة على تنظيم عمل منظمات المجتمع المدني الى ضعيفي الخبرة والتدبير ما يترك أثره السلبي على نشاط وفاعلية المجتمع المدني واضمحلال مساهماته وتثبيط عزائم المجموعات التطوعية والتسبب في إحداث التراجع في الحراك المدني العام، وانهاكه بمتطلبات غير واقعية تميت عزيمة المـتطوع والحط من قدراته وجاهزيته للمشاركة في المشاريع الوطنية للتنمية.
المتابعون لنشاط المجتمع المدني متفقون على حقيقة ثابتة مؤكدة ومسلم بفوائدها وايجابيات فعلها، وتؤكد تلك الحقيقة أن المجتمع المدني قوة فعلية في منظومة العمل التنموي ومقوم مهم في تعضيد قدرات العمل المؤسسي الاستراتيجي للدول في إحداث طفرة نوعية في إنجاز مشاريعها التنموية والاجتماعية، وبدونه لا يمكن تحقيق جودة المنجز في تأكيد الأهمية اﻻستراتيجية للتنمية المستدامة وتفعيل اهدافها، ويشير المبدأ «44» من وثيقة مبادئ مؤتمر الامم المتحدة للتنمية المستدامة – ريو+20 الى أن المجتمع الدولي «يسلم بدور اﻟﻤﺠتمع المدني وأهمية تمكين جميع أفراد اﻟﻤﺠتمع المدني من المشاركة الفعلية في التنمية المستدامة»، «ويعترف» بأن تحسين مشاركة اﻟﻤﺠتمع المدني يتوقف، في جملة أمور، على تعزيز فرص الحصول على المعلومات، وبناء قدرة اﻟﻤﺠتمع المدني وكذلك ﺗﻬيئة بيئة تمكينية «ويؤكد في المبدأ (53) على أنه يلاحظ «الإسهامات القيمة التي يمكن للمنظمات غير الحكومية أن تقدّمها، وتلك التي تقدّمها بالفعل، لتعزيز التنمية المستدامة من خلال خبراﺗﻬا وتجارﺑﻬا وقدراﺗﻬا الراسخة والمتنوعة، وخاصة في مجالات التحليل وتبادل المعلومات والمعارف وتعزيز الحوار ودعم تنفيذ تدابير التنمية المستدامة».
الأهمية الاستراتيجية للمجتمع المدني في معادلة بناء السلوك البشري والتنمية المستدامة في مقدمة اهتمامات المجتمع الدولي ويجرى في إطار التوجه لتعزيز الإطار المؤسسي للتنمية المستدامة التشديد في المبدأ (76) من الوثيقة ذاتها على التوجه الدولي في تحسين واقع مشاركة المجتمع المدني إذ يشير في الفقرة (ح) من المبدأ سابق الذكر الى ضرورة «تحسين مشاركة هيئات اﻟﻤﺠتمع المدني والجهات المعنية الأخرى وإشراكها بفعالية في المنتديات الدولية ذات الصلة، والعمل، في هذا الصدد، على تشجيع توخي الشفافية والمشاركة الواسعة للجمهور وإقامة الشراكات لتحقيق التنمية المستدامة».
التوجه الدولي لتعزيز مشاركة المجتمع المدني في القرارات الاستراتيجية للتنمية المستدامة طموح مشترك، بيد أن ظروف العمل المدني في بعض الدول وواقع تجارب النشاطات والاجتماعات الدورية في المرحلة السابقة لمنظمات المجتمع المدني في غرب آسيا تؤكد عكس ذلك ولا ترتقي الى مستوى الطموح، وندرك حرص الادارة الحالية لبرنامج الامم المتحدة في غرب آسيا»UNEP» على تبني نهج العمل الذي يسهم في إحداث التحول النوعي في عمل المجتمع المدني في الاقليم، وذلك يتطلب إجراء مراجعة شفافة ومؤسسة في منهجيات أهدافها، وإسناد مهمة الإشراف على تنظيم نشاط منظمات المجتمع المدني في غرب آسيا الى أفراد يمتلكون الخبرة والكفاءة، ويتميزون بالنزاهة والشفافية والمهنية في ادارة عمل المجتمع المدني في الإقليم.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 4906 - الخميس 11 فبراير 2016م الموافق 03 جمادى الأولى 1437هـ