(حبيبتي قاهرتي لن تغلبي، لن تقهري) تتبعت مصدر الصوت وأنا أستشعر نسيم الصباح في قاهرة المعز. لقد ثكلت مصر بفقد زعيم الأمة الرئيس جمال عبد الناصر وهي في منتصف الطريق للنهوض من كبوة 1967. كانت الجماهير تغالب الأحزان بالاستماع إلى الأغاني الوطنية التي تخفف مشاعر اللوعة وتشد العزم لمواصلة الكفاح واستعادة أرض سيناء المسلوبة، بعد تناول وجبة الإفطار تهادى بنا التاكسي في شارع 26 يوليو باتجاه مدينة الأعلام مروراً بكوبري أبو العلا ثم الزمالك أجمل أحياء القاهرة.
كانت الأفواج البشرية أشبه بالمحرك الجبار لعجلة الحياة المتدفقة عبر الشوارع الواسعة، تزاحمها العربات والباصات المكتظة بالركاب من كل لون وشكل، وهي في تناغم ساحر مع حركة البيع والشراء للمتاجر والمطاعم، وديباجة الباعة المتجولين، كلٌ يؤدي دوره بتلقائية في سيمفونية الصباح. لقد تمازجت كل العناصر والمركبات بالناس، بالطبيعة، بالجماد، كما لو دعينا إلى مولد لم نعرف متى بدأ ولا أين سينتهي حتى أضحت مشاهداتنا على الطريق شريطاً سينمائياً يخطف الأبصار فيستبيح الحواس بكل جديد، تزاحمت تلك التلقيات في سباقها المحموم مع وتيرة الحياة السريعة حتى بلغت مستقرها الأخير مروراً بالعقل الذي ترجم فصول ذلك المشهد إلى غبطة لفتها الدهشة والإثارة وغمرها شعور فريد بسعادة عظيمه تعجز عن وصفها أبلغ الكلمات.
هذا المشهد القصير تربع في الذاكرة والوجدان وعلى مدى 45 عاماً بقي براقاً لامعاً لم تخدشه المتغيرات ولم يبهته تقادم السنين ولا تعاقب الأحداث والرؤساء، مروراً بالرئيس المخلوع حسني مبارك ورحيل سلفه أنور السادات حتى مع تباين الأسباب والظروف!
في يوم 3 ديسمبر من العام الماضي وبعد قطيعة استمرت 30 عاماً، زرت مصر مجدداً مشدوداً بذكريات جميلة وأوقات سعيدة، ترجمت في حرفين (حب) لهذا البلد، استقر في الوجدان أذكاه الشوق فأصبح عصياً على النسيان. عند الوصول بدا المشهد مختلفاً: صالة الوصول غزتها رياح التغيير، فالتعامل مع القادمين أخذ منحى جديداً في سرعة إنجاز المعاملات. بعد ركوب التاكسي فقدت البوصلة اتجاهها، أين نحن الآن؟ أليس هذا طريق صلاح سالم؟ كل سنة وأنت طيب يا بيه هذا الطريق الدائري صادف وصولنا ساعة الذروة، كانت الزحمة شيئاً لا يطاق، ولكن ما لفت انتباهي هو حال الشوارع فقد بدا عليها القدم الشديد، كما لو أن الصيانة لم تصلها من 50 عاماً! ومع اقترابنا من محاذاة وسط البلد بدأت البوصلة في الدوران من جديد، ها نحن على مقربة من الجزيرة وعلى الناحية الأخرى لاح من بعيد المايسبيرو ومبنى الاذاعة والتلفزيون ورويداً رويداً بدأت أتعرف على الأماكن. وبعد أن أوغل التاكسي في المناطق الجديدة توقفت البوصلة مجدداً وما أن بلغنا مريديان الهرم حتى لاحت الأهرامات وظهرت نواجذ أبو الهول في ابتسامته المعهودة.
كل يوم عند الخروج صباحاً أمطر سواق التاكسي بالأسئلة المعهودة: إحنا فين يا ريس؟ مسبوقة بالجملة التقليدية (سايء عليك النبي ما تسرع) ورويدا رويدا بدأت أجسر معلوماتي القديمة بالأماكن الجديدة والشوارع، في اليوم الثاني وبعد زيارتنا للبلد عرجنا على مكتبة مدبولي، انتصب تمثال سليمان باشا متوسطاً الميدان يحيي القادمين بكل أنفة وإجلال، معطياً ظهره لمحل كروبي كما عهدناه، على طول شارع طلعت حرب ما زالت المحلات تحتفظ برونقها وجمالها وفي حلة جديدة من الألبسة والموديلات الحديثة كانت على عهدنا بها عدا أن سينما قصر النيل كانت مغلقة، والبعض الآخر لم تعد بالوهج الذي كانت عليه، لقد سجلت هذه الدور على مدى 90 عاماً أو أكثر إنجازات مصر الفنية في السينما والتمثيل والغناء والمسرح، عرف خلالها الشعب المصري عمالقة التمثيل والطرب، فريد شوقي، وشكري سرحان وسيدة الشاشة فاتن حمامة، والسيدة أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وفايزة أحمد حتى غدت متاحف تحكي تفاصيل نهضة مصر الاجتماعية في خمسينات وستينات وصولاً إلى ثمانينات القرن الماضي.
لقد فقدت ذلك الوهج بعد أن تحول عنها الناس إلى أماكن أخرى جديدة، مضت ساعة من الزمان أو أكثر، أثلجت قلبي وأعادت توازني، فالبلد استعادت حلتها الجميلة بعد أن أزيلت كل العشوائيات من جوانب الطرق أضفت عليها بعض الصيانة والدهانات للمباني رونقاً جميلاً لا تخطئه العيون. رددت في نفسي هذا ما تحتاجه مصر الصيانة وكثيراً كثيراً من الحزم لإزالة الفساد والمحسوبية وشغل بعض البلطجية الذين استغلوا انشغال الجماهير في مطالبها العادلة فعاثوا في الأرض فساداً وذهبوا بهيبة الدولة. في طريق العودة اشترينا بعض الألبسة واحتسينا الشاي في أحد المقاهي، وعند الميدان كان التاكسي ينتظرنا. لوّحت بيدي لسليمان باشا مودعاً إلى لقاء آخر.
كان سيتي ستار أكبر مول في القاهرة لا يختلف كثيراً عن سيتي سنتر البحرين عدا المساحة وعدد المحلات. مررنا بجولة في عدد من محلات الألبسة والكماليات وتبضعنا بعض الألبسة الشتوية وتريضنا كما العادة في سيتي سنتر البحرين بالسير في المجمع قرابة الثلاثة كم. كان كل شيء يشعرك منذ الوهلة بخطوات مصر المتسارعة للخروج نحو آفاق جديدة بالتمدد العمراني في المناطق البعيدة عن العمران حيث ذكرتني بالبحرين في بداية السبعينات والثمانينات، ولكن ما أدهشني كثيراً هو تكيف الشعب المصري مع تلك النقلة العمرانية والتكنولوجيا الجديدة معاً في شكل أجهزة التواصل الاجتماعي الحديثة التي أأمل أن يحسن أغلب المصريين تسخيرها وتشغيلها لقضاء أمورهم ومصالحهم في حياتهم العملية، وليس التسكع بين مواقعها والتي ستكلف الدولة ضياع الكثير من ساعات العمل والإنتاج في دولة كبيرة غزتها هذه الأجهزة كغيرها بدون إشعار أو سابق إعداد.
عند الساعة السابعة مساءً مررنا بميدان التحرير، كان خالياً تماماً من أي تجمع عدا تمثال رفاعة الطهطاوي وهو يراقب الميدان بحيرة وصمت. بعد ذلك توجهنا إلى مدينة الرحاب وهي إحدى المدن الجديدة في القاهرة والقريبة من مطار القاهرة الدولي والحديث هنا إلى أحد المستثمرين: كانت الشقق في هذه المدينة معروضة للبيع للمستثمرين الأجانب قبل 8 سنوات بـ 50 ألف جنيه على أقساط شهرية بواقع ما يساوى 50 ديناراً شهرياً، ولكن سعر السوق الحالي يفوق سعر الشراء بـ 7 مرات. لقد اشتريت شقة عام 2008 وهي تساوي الكثير الآن كما يوجد في المدينة نظام البلوكات للمحلات والأسواق العامة بلوك أو مجمع خاص لمحلات البقالة وآخر للبنوك وبالمثل شركات الاتصالات، كذلك للمطاعم نصيب الأسد مع مراعاة عمل شوارع واسعة ومواقف للسيارات وبسبب تنظيمها الرائع أصبحت ضالة سكان القاهرة في أيام الإجازات. إنها مدينة حديثة ولكن مازال ينقصها الكثير من اللمسات الأخيرة.
سألته: ما قيمة هذه المحلات؟ فضحك هازئاً وقال: الأفضل أن لا تعرف! فعاودت السؤال فتعذر بحجة أن معلوماته قديمة فتدخل سواق التاكسي وحل المعضلة: يا بيه دي كانت معروضة بـ 50 ألف جنية قبل 8 سنوات، أما الآن فسعرها الحالي 3 ملايين جنيه. سألته مندهشاً: أُمّال إيجارها كم؟ أجاب: عقبال عندك 25 ألف جنية في الشهر، يعنى إيجار شهرين كافية لتغطية سعر الشراء قبل 8 سنوات. سرني كثيراً فكل كلمة خرجت من فمه معجونة ببساطة المصريين وروح الاحترام وحس الفكاهة، وخفة الظل لم يكن ليخفى علينا أي معلومة يعرفها!
كانت زيارتنا لمقام سيدنا الإمام الحسين (ع) في المساء جميلة جداً. توضأنا وصلينا ركعتين، توجهنا بعد ذلك إلى مقهى نجيب محفوظ وأخذنا بعض الصور التذكارية. لقد زين المقهى وأعيد تأثيثه إلا من مقعد الأستاذ نجيب محفوظ فما زال شاغراً منذ أن تركه في عام 2003 حتى الساعة، ليضيف رمزاً جديداً إلى حضارة مصر الحديثة.
كان البرد شديداً في تلك الليلة، قرابة 9 درجات، حتى أن خوفو على رأي موظف الاستعلامات اعتذر عن استقبال زوار الهرم في صباح ذلك اليوم! احتسينا الشاي في مقهي الفيشاوي فعادت بنا عقارب الساعة إلى مسلسل ليالي الحلمية ورأفت الهجان في ثمانينات القرن الماضي قبل أن نغادر على عجل، فموعد لقائنا بتاكسي العودة قد تجاوزناه بـ 10 دقائق.
في يوم العودة مررنا مجددا بالطريق الدائري، حيث مئات العمارات على الجانبين تنتظر التشطيب وكلها مظلمة موحشة قرابة الـ25 كم من الممكن أن تحوي 3 آلاف عمارة أو أكثر. سألت أصحابي ما هذه المباني؟ كأنها أعجاز نخل خاوية؟ وكان الجواب: هذه العمارات تعود إلي بداية ثورة 25 يناير 2010 وفي غياب المؤسسات الحكومية لاستخراج الرخص، شرع البعض يبني بدون ترخيص (شغل بلطجية)، والآن بعضها ساكن والغالبية تنتظر أمر المحكمة والجهات الرسمية للبت فيها وعلى رأي إخواننا المصريين حلني بقى (انتظر الفرج).
هذه بعض تداعيات الثورة السلبية وأخرى كثيرة لا يسع المقام لذكرها، وكل يوم أشهد أمراً أو منظراً حزيناً يعتصر قلبي حسرة على مصر رفاعة الطهطاوي مؤسس النهضة الحديثة في مصر، والرئيس الراحل جمال عبد الناصر وعمالقة الشعر والأدب أحمد شوقي، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، وآخرين لا حصر لهم، أعلام في الشعر والثقافة والأدب والسياسة.
أمر آخر ساءني كثيراً، كل الوجوه البائسة والأماكن التاريخية المهملة التي مررت بها كانت تكاد تصرخ بي عالياً: بتبص على أيه؟ مش ده المكان اللي أنت عاوزه؟ العنوان غلط !؟.
عند الإقلاع كنت أتمتم بعض الأوراد وعاصفة من الأفكار تجتاح مخيلتي، هذا الشعب لم يفقد روح وشهامة ابن البلد المصري، نعم لقد تجاوزوا الـ 90 مليوناً حتى الساعة، ولكن هناك خطأً قاتلاً أهمل على مدى عقود، هذا الكم الفلكي يحتاج إلى إعادة غربلة لتجعل منه مصر كماً وكيفاً. لقد بلغ الفساد في مصر أن أوصل البعض إلى مصاف الأغنياء ولكنه في المقابل أتى على الطبقة المتوسطة (لب المجتمع ومصدر نخبته ومثقفيه) فكان ما كان من ثورة 25 يناير2011 التي استقطبت كل فئات الشعب. إن أكبر نكبة تصاب بها أية أمة هي صعود الحفاة وتراجع النخب من كل الأطياف. وفي هذا السياق لا زالت تحضرني بعض العبارات التي كان يرددها المثقفون في مصر (تراجع المثقفون وتقدم الانتهازيون).
ستحتاج مصر لإعادة الاهتمام بالنشء الجديد وتحديد النسل وليست مجاميع بشرية تأكل وتشرب وتنام دون أن تحظى بالتعليم والرعاية المطلوبة، فإن بلغت مصر ذلك وبموازاة محاربة المحسوبية والفساد، وأمر آخر وهو الاهتمام بالأماكن السياحية كمصدر دخل غير ناضب للبلد. ونظرة سريعة لمنطقة الأهرامات أهم المعالم السياحية في العالم العربي وأفريقيا، هذه القرية منذ العام 1952 تعاقب عليها 5 رؤساء عبد الناصر والسادات ومبارك ومرسي وآخرهم السيسي، وحتى الساعة ما زالت قرية مهملة لم تحظ بالرعاية المطلوبة. بمعنى أن هذه المنطقة وفي محيط خمسة في خمسة كم، يجب أن لا تقل عن أي معلم سياحي في العالم كوالت ديزني أو يورو ديزني، وبالمثل معابد الأقصر وأسوان، فإذا بلغت مصر ذلك تكون قد وضعت قدماً كبيرة على طريق النهضة الاقتصادية الواعدة واللحاق مجدداً بالدول المتقدمة. عمَار يا مصر.
سيد عدنان الموسوي