عند انطلاق أول عملية للثورة الفلسطينية المعاصرة، في الأول من يناير/ كانون الثاني لم تكن أهدافها واستراتيجياتها غريبة على المناخ العام، الذي شهدته الأمة العربية، وبلدان العالم الثالث، فأثناء تلك الحقبة، كان الإيقاع السياسي الذي يموج به الوطن العربي مفعماً بالأماني، بتحرر بقية البلدان العربية، التي مازالت تحت نير الاحتلال، وبقيام أمة عربية واحدة، وإحياء لفكرة القومية العربية. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، برزت مجموعة من الحقائق أدت إلى تعضيد التوجهات الشعبية وانتشار الأفكار القومية.
وكان في المقدمة من تلك الحقائق، ظهور فكرة الحياد الإيجابي، وبروز دول العالم الثالث الحديثة الاستقلال بقوة، على المسرح السياسي الدولي. إضافة إلى تبلور فكرة تشكيل تجمع دولي جديد يضم مجموعة الدول النامية التي رزحت تحت نير الإمبراطوريات الاستعمارية ردحاً طويلاً من الزمن، وشهدت بأم عينيها الانسحاق الإنساني، الذي أفرزته حربان عالميتان مدمرتان. ولذلك رأت أن من مصلحة شعوبها أن تنأى بنفسها عن الانتماء لإحدى الكتلتين المتصارعتين: الرأسمالية «الغربية» أو الشيوعية «الشرقية».
وقد استطاعت هذه الدول أن تصبح قوة جماعية من خلال تأسيسها لحركة عدم الانحياز، وتبنيها سياسات مستقلة، وابتعادها عن الأحلاف والتكتلات العسكرية لأي من المعسكرين المتنافسين، ومن خلال تحكمها في الغالبية من الأصوات بالجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة.
أما الحقيقة الأخرى، فكانت تنامي وانتشار فكرة الوحدة، حيث غدت حقيقة حية، في سبيل التحرر من الهيمنة السياسية والاقتصادية. وكان الأساس النظري الذي استندت إليه الفكرة، أن هذه المجموعات البشرية التي عاشت على البقعة الجغرافية الممتدة من الخليج العربي شرقاً، إلى المحيط الأطلسي غرباً، جمعها إرث حضاري وتاريخي وثقافي.
وهي بما يربطها من وحدة لغوية وجغرافية واقتصادية، قدرها الانضواء في دولة عربية موحدة، تجعل من رفضها لسياسات للاحتلال وللمشروع الصهيوني، رفضاً إيجابياً وغير منفعل، أدواته ومقوماته عمق الأمة، حين تضع ثرواتها وإمكاناتها ومواردها ومورثاتها مجتمعة في خدمة هذا الرفض بما يضمن تحقيق الحرية والتقدم والتطور.
ذلك أن الحرية، التي يسعى إلى تحقيقها كل قطر عربي على حدة، تصطدم بمعوقات ومآزق تجعل من الحديث عنها مجرد طنين لا تربطه بالواقع أية صلة، طالما أن السيادة الاقتصادية لاتزال عصية، فالحرية بالمعنى العميق والشامل، هي تلك التي تبلغها الأمة من خلال هيمنتها على مقدراتها، وبنائها لقدراتها الذاتية. والوحدة بهذا المعنى لا تمنح العرب قوة اقتصادية وسياسية هائلة فحسب، ولكنها أيضاً تحدث تغييراً في شكل العلاقة بين هذه الشعوب.
وكان تنامي التأييد للتنمية والعدل الاجتماعي، لدى قطاع واسع من النخب العربية، ضمن الحقائق التي شهدها الوطن العربي في تلك الحقبة. وقد منح ذلك زخماً جديداً لفكرة الوحدة، حين تم ربطها بموضوع التنمية الاجتماعية والاقتصادية، التي لا يمكن أن تتحقق في ظل التركيبة البطركية السائدة.
وفي هذا السياق، نمت بقوة، فكرة الالتزام بتخطيط يلتزم بتنفيذ الأولويات من المشاريع التي تستجيب لتلبية الحاجات الأساسية للناس. وهذا يعني رفضاً قاطعاً لأن تكون التنمية في المجتمع العربي حاصل الفوضى الاقتصادية.
لقد اكتشف منظّرو النهضة العربية، أن التنمية الاقتصادية ذات الأبعاد الكبيرة، بما تتطلبه من رؤوس أموال ضخمة وقدرات بشرية هائلة، ومواد خام، وموارد، وأسواق واسعة لا يمكن أن يضطلع بها أي قطر عربي على حدة. وإنما تتحقق عن طريق تكامل اقتصادي قائم بين مجموعات سياسية، تتقارب في أسس نظمها وبرامجها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتصبح قادرة من خلال وحدتها، على إحداث تغيرات أساسية وجذرية في البنى الاقتصادية والهيكلية القائمة.
وقد اختلفت الطرق التي تفاعلت بها هذه العوامل وتساوت في حركات التحرر الوطني العربية، أثناء المواجهة مع المحتل، من قطر عربي لآخر، تبعاً لمستوى النمو الاجتماعي والاقتصادي لهذه الأقطار من جهة، ونوعية الاستجابة المطلوبة في المواجهة لتلك القوى من جهة أخرى.
في ظل هذا المناخ الفكري، تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية، إثر انعقاد قمة عربية، في مطالع عام 1964، لمواجهة مشروع الكيان الصهيوني، لتحويل مياه نهر الأردن، لصحراء النقب، وتبنت ثلاثة قرارات رئيسية: تشكيل قوة دفاع عربي مشترك، وبناء جيش تحرير فلسطيني، وتأسيس منظمة التحرير.
وكان انطلاق حركة فتح، بقيادة الراحل ياسر عرفات، في الأول من يناير عام 1965، هو رد فعل استباقي، للحيلولة دون تدخل الدول العربية، في الشأن الفلسطيني، وتأجيل انطلاق العمل المسلح ضد الكيان الغاصب.
وقد انطلق مقاتلو حركة فتح لتنفيذ عمليتهم العسكرية الأولى ضد الكيان الصهيوني من الحدود الأردنية في اليوم الذي تحتفل فيه المقاومة بذكرى انطلاقها حيث وضعوا قنبلة موقوتة في أحد المشاريع «الإسرائيلية» للمياه. إلا أن تلك القنبلة لم تنفجر في الوقت المحدد لها بسبب رداءة صناعتها، وتمكن أحد الجنود «الإسرائيليين» من اكتشافها وإفشال مفعولها.
لم تكن العمليات العسكرية الأولى لـ «فتح» ذات تأثير قوي في «إسرائيل» من حيث قوتها وعددها. فحتى نهاية 1965، لم يتعدَّ مجموع تلك العمليات خمساً وثلاثين عملية. وقد قوبلت برد «إسرائيلي» عنيف، تضمن قصفاً مدفعياً للمناطق الحدودية المجاورة في سورية والأردن.
لكن تلك العمليات، نقلت الصراع العربي الصهيوني، بشكل جذري إلى مستوى أعلى من المجابهة، معيدة الاعتبار لعروبة فلسطين، ومؤكدة إفلاس النظرية الأساسية لقادة فتح، في عزل قضية فلسطين، عن سيرورتها القومية.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4892 - الخميس 28 يناير 2016م الموافق 18 ربيع الثاني 1437هـ