شاردة بعيداً عن حولها، بعيداً بنظرها تخترق البعيد، هي خارج اللحظة تتأمل وتتفكر، كأنها تقرأ طالعها ذات الثانية عشر ربيعاً. هي المستقبل وهي ابتسامة الحياة وسخاؤها ووفير عذوبتها، إنها الناعمة الرقيقة أماسيل في غربة الوقت، بل في لهيب غربتنا أجمعين.
كالفراشة وبغنوج الأطفال تتقافز بين زوايا الوقت واحتباس الأنفاس، لا توصد الأبواب، تستضيف عصفوراً مغرداً مرّها بسلام يحاكي غربتها بالصفير والألحان، يغني معها سواد الحزن الدفين، تقدم له الماء وفتات الخبز وتحلم أن تعلو ريشاته الناعمة ذات مساء وتنطلق بجناحيه للريح باتجاه السحاب، تحسده على الترحال بعيداً عن المارد من مكان إلى مكان هكذا بحرية بال وصفاء، هو نقيضها في رحلة السراب حيث نار القلق تخيم في الصحو والأحلام، كم مؤلم أن يُؤخذ الصغار بفعل الكبار فيدخلونهم في تفاصيل حكاياتهم ومعاركهم عنوة.
***
تتمرد، تغضب تعاند تارة لأنها لم تعرف السلاسل والشقاء، تضحك وتتجول في محيطها كاسرة الأسر رافضة مغادرة الطفولة بكبرياء، فما أجمل أن تكون ملكاً بين الألعاب والتهام الحب والقبلات وتذوق فيض الحنان في أحضان الأمهات والجدات، هي التي كانت تموج حين يصل لمسامعها بكاء الأمهات وصخب الكراهية وهيجان الألوان المتناثرة.
عفواً أبي... معذرة أمي علموني سر حكايات الأمطار والأقمار والوداع ووحشة الليالي الباردة، علموني فلازلت طفلة تسامر ألعابها وظنونها وهي تكدس الملابس في حقيبة السفر استعداداً للرحيل بلا زوادة سوى شيء من الحب وبعض من وجع أو حين تقلب ورق الصحيفة بين أصابعها علها تجد سبباً مقنعاً لكل هذا الحزن والشقاء.
****
تثبت سماعات الأذن وتهرب لجهازها تتفحص ما خلفته من أشياء وأنفاس دافئة وروائح تستذكرها ويكثر سؤالها متى ومتى ومتى نعود للزمن الحاضر لم لا وهي في غربة الوقت، لكنها بقوة في حاضنة المستقبل، إنها الحقيقة الفاقعة التي ستتعلمها ونتعلمها معها بمرور الوقت شئنا أم أبينا.
تحدق في درب المسافرين تحتضن رواية «مليلة» بين أصابعها الناعمة، صعب أن تسألها مالذي يشدها من تلك الحكاية، أهي تعقد المقارنات وتضرب الأخماس بالأسداس مع جرحها الصغير؟ ربما!
من وراء الضباب تتمثل دور الأخت الصغيرة، والكبيرة في آن، تتقمص المسئولية وتمارس ألعابها تطهو بمتعة، تكنس وتجلي الصحون بصمت وحبور، تضغط كفَّها بكف من يمشي معها ويتقاسمها اللقمة والوجع، فقد صارت تدرك بالفطرة أن كل شئ تغيّر، وعليها مسايرة تغير الأدوار والاعتماد على النفس.
غيمة رمادية في عيونها، وأزهار الثلج والغابات البيضاء من حولها تطارد الأحلام، توشوش في أذن والداتها بالكلمات، تلتصق بها، تبتسم وهي القادمة من درب التيه الطويل محملة بدعوات الخير والسلامة وتعويذة العودة الطويلة، نامت على زندها وتوسدت، فلكل قصة نهاية، ولكل فجر بداية، تعانق المكان الجديد، تحمل مصباحها تفتح باباً وترسم خطوات يوم جديد تحفظ فيه عن ظهر قلب كلمات «محمود درويش»:
وطني! لم يعطني حبي لك
غير أخشاب صليبي!
وطني، يا وطني ما أجملك!
خذ عيوني، خذ فؤادي، خذ، خذ، وخذ.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4890 - الثلثاء 26 يناير 2016م الموافق 16 ربيع الثاني 1437هـ
مقال مؤثر، الله يوفق أماسيل ووالديها وأخوها.. كل الحب لكم
ميسووو كما اعتدنا تسميتها ...
سوف ترجعين لاحضان وطنك ودفئة طال الزمن ام قصر ..
ثق بالله والله لا يضيع حق