لا يزال البعض يستغرب ضمورَ حضورِ العلماء والمفكرين العرب والمسلمين والمتخصّصين بالأساس في الشأن الدينيّ ممّن يُحسَبون، أو يُصَنِّفون أنفسهم ضمن المعتدلين أو دعاة السلام والتسامح والمحبّة... وغير ذلك من المسمّيات والألقاب، حتّى كدنا نيأس من حضورهم وتأثيرهم في شأن المسلمين ولاسيّما الشباب والمراهقين فكريّاً منهم. في حين أنّ خطاب الكراهية والحقد والعنف الفكريّ والجسديّ قد بلغ حدّه وانتشر بفضل ما تهيّأ له من أسباب مادية وبشريّة.
ولعلّ آخر ما يمكن أن يُذكر لزمرة العلماء والدعاة المعتدلين لقاؤهم منذ سنتين وتحديداً في شهر رمضان من العام 2014م، حين انعقد في تركيا اجتماع بِناءً على مبادرة تقدم بها علماء، ومفكرون من العالم الإسلامي بعنوان «مبادرة العلماء المسلمين للسلام والاعتدال والتسامح»، وذلك تحت وطأة ما شهده المسلمون في شهر رمضان ذلك العام، من فوضى، وحروب، وقتل. غير أنّ هذه الدوافع لعقد هذا الاجتماع لم تنجلِ، وقيود الفكر الإرهابي لم تنكسر، وكذلك، وللأسف، حراك علمائنا الأفاضل لم يُرَ له أثر؛ فلا بيان الشجب بدّد شبح الإرهاب، ولا كلمات العلماء خلال اللقاء تحوّلت إلى مبادرات على أرض الواقع.
وإذا كان في العالم من يسعى إلى صناعة «الإسلاموفوبيا» لبثّ الرعب في نفوس الناس حول الإسلام، فإنّ المنتسبين إلى الإسلام، من الجهلة والأغرار، قد قدّموا الهدية تلو الأخرى لمن ينفخ في نار «الإسلاموفوبيا» بما اقترفوه من أعمال عدوانيّة ضدّ الأبرياء. فلقد تضاعفت معاناة المجتمعات الإسلامية، ولاسيما العربية منها، سواء أكانت في ديارها، أم مقيمة في ديار الغربة في البلاد الغربيّة، بسبب تصاعد موجات الفكر المتطرّف، فكرِ الغلو والتشدّد والكراهيّة ونكران الآخر، حتّى صار الغلوّ في العقدين الآخرين سلوكاً يروّع الآمنين من المدنيين ويزعزع الاستقرار، ويبثّ الرعب، بل ويستحلّ الأحجار من قديم الآثار، كما يستحلّ دماء البشر من الأطفال والأبرياء.
لذا، صار لزاماً على العلماء الوقوف ضدّ خطاب الكراهية والغلوّ والتطرّف الفكريّ والسلوكيّ، بل والتحذير منه وتحديد موقف واضح وصريح منه ورفده بالدليل القاطع والبرهان الساطع من محكم الآيات وصحيح الأحاديث، فضلاً عن براهين العقل والمنطق. ثمّ نشر ذلك بكل وسائل الإعلام الممكنة في العالم لعلّ شبابنا المتعاطف مع بعض الأفكار والجماعات المتطرفة يثوب إلى رشده ويهتدي إلى خطاب السلام والمحبّة والتسامح والحوار. فالمسئولية كبيرة على عاتق العلماء والمفكرين والدعاة للتخفيف من حدّة التوتّر، وذلك بالتحذير من قتل الإنسان، الذي يعتبره الإسلام قتلاً للبشريّة جمعاء.
إنّنا لا ننكر أهميّة خوض العلماء في مواضيع أخرى ذات علاقة بالدين الإسلاميّ، ولا نقلّل من أهميّة انشغالهم بالحديث عن رؤية أهلّة الشهور القمرية، ونواقض الوضوء، وشروط الصيام... وغيرها من مشاغل الحياة اليومية للمسلم، لكن اللّحظة التاريخيّة تحتّم على العلماء والمفكرين المسلمين أن يتصدَّوْا للإرهاب بمختلف مظاهره وأن يتكاتفوا كلٌ من موقعه من أجل إنقاذ أجيال وأجيال وتحقيق مقصد مهمّ من مقاصد الشريعة ألا وهو حفظ النفس البشريّة، فضلاً عن حفظ الدّين.
إنّ خطاب التطرّف والكراهية يستند إلى فهم معين للدين، ويستدلّ ببعض التأويلات «القروسطية» للقرآن الكريم. بل لا يراعي البتّة الواقع الرّاهن، وإكراهات اللّحظة التاريخية التي يعيش فيها المسلمون. وهذا الخطاب يلقى رواجاً لا بين الجهلة وإنّما أيضاً بين المتعلّمين، بل وحاملي الشهادات العليا. وبما أنّ هؤلاء تأثّروا بفعل ذلك الخطاب التكفيري المغلوط، فإنّ أجيالاً وأجيالاً أخرى يمكن أن تواصل حمل هذا الفكر. لذا فإن معالجة الظاهرة التكفيريّة وما ينتج عنها من سلوكات عدوانيّة تجاه الآخر تحتاج هبّة علميّة يقودها رجال العلم الأفاضل بعيداً عن الأجندات السياسية حتى يتقبّلها الشباب المسلم عن قناعة، ويعدّل بها اتجاهاته وسلوكه.
وإذ لا ننكر إعلان بعض العلماء والمفكرين مواقف واضحة من هذا التطرف والغلوّ في الدين، وإنكاره وحتى تحريمه، فإنّ ذلك لم تصحبه ماكينة إعلاميّة تروّج له وتعرّف به؛ فلقد كنت في بحث دؤوب خلال الأشهر الماضية عن شخصيّات عربيّة مسلمة، من العلماء أو المفكرين، مشهورة من دعاة التسامح وصنّاع السّلام، تعمل بكلّ ما أوتيت من إمكانات من أجل نشر ثقافة المواطنة والعيش المشترك. غير أنّ بحثي قلّما يجد ضالّته، بل لا أكاد أعثر على عَلَم من أعلام التسامح والسلام إلاّ بشقّ الأنفس لقلّة العمل الميدانيّ لهؤلاء العلماء وضعف التواصل مع الناس، واكتفائهم في الأغلب ببعض التصريحات المقتضبة والآراء المحترزة أو المقالات النخبوية هنا وهناك أو بعض المحاضرات التي تُلقى في المجالس والأبراج العاجية. ولم يبقَ عالقاً في ذاكرتي إلا جهود جماعة التقريب بين الأديان في منتصف القرن الماضي.
في حين أنّ ضالّتي كنت ولا أزال أجدها، وفي يسر، كلّما اتجهت نحو شخصيّات اجتماعية من عامّة الناس لا ترقى إلى مكانة أولئك العلماء. ولكنها شخصيّات، من النساء والرجال، استطاعت أن تنشر ثقافة السلام وتزرع المحبة بين الناس وتؤلف بين قلوب المختلفين في الدين أو المذهب أو العرق؛ لأنّ عملها كان مباشراً بين الناس.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4889 - الإثنين 25 يناير 2016م الموافق 15 ربيع الثاني 1437هـ
يا حبّذا البحث عن شخصيّات، من النساء والرجال، استطاعت أن تنشر ثقافة السلام وتزرع المحبة بين الناس وتؤلف بين قلوب المختلفين في الدين أو المذهب أو العرق؛ ونعرف بها بين الشباب.
للأسف
إنّ خطاب التطرّف والكراهية يستند إلى فهم معين للدين، ويستدلّ ببعض التأويلات «القروسطية» للقرآن الكريم. بل لا يراعي البتّة الواقع الرّاهن، وإكراهات اللّحظة التاريخية التي يعيش فيها المسلمون. وهذا الخطاب يلقى رواجاً لا بين الجهلة وإنّما أيضاً بين المتعلّمين، بل وحاملي الشهادات العليا