ثلاثة أنظمة شيوعية مشهورة نجت من الزلازل التي أسقطت الأنظمة الشيوعية الشمولية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق في مطلع تسعينات القرن الماضي: الأول النظام الصيني، والثاني النظام الكوبي، والثالث النظام الفيتنامي، ومازالت هذه الأنظمة بعد مرور ربع قرن على تلك الزلازل صامدة تتحدى الانهيار، ولعل أقواها النظام الصيني، إذ تحولت الصين إلى قوة اقتصادية كبرى في الانتاج الصناعي والتجارة العالمية.
وكان لاتّباع النظامين الصيني والفيتنامي، بدرجات متفاوتة، سياسة الانفتاح الاقتصادي على البلدان الرأسمالية أثر في تفادي انهيارها، وها هو النظام الكوبي يُمهّد الآن الطريق على نحو خجول لانتهاج السياسة نفسها، لكن الأجدر في الاستفادة من تجربته العريقة في تطبيق هذه السياسة هو بلا شك النظام الصيني منذ أن ترك ماوتسي تونج، مؤسس الصين الشيوعية (ت 1976) تركة ثقيلة لأسلافه في قيادة الحزب والدولة، واللذان كانا على شفا الانهيار جراء تطبيق مغامراته التي عُرفت بـ «الثورة الثقافية « والتي جرى تطبيقها في أكبر بلد في العالم من الفلاحين، لم تتشكل فيه طبقة عاملة متطورة بخصائصها المعروفة في البلدان الصناعية المتقدمة.
لكن القائد الجديد دينج شياو بينج (ت 1997) تمكن بعبقريته من انقاذ الحزب والدولة بحزمة إصلاحات اقتصادية عُرفت بـ «اقتصاد السوق»، وهو ما يعني الانفتاح المحسوب على الرأسمالية لحقن النظام الاشتراكي بسيلان المغذي الرأسمالي، إن جاز لنا التعبير المُبسّط، فأوفد بعثات الى الدول الرأسمالية لدراسة الهندسة والاقتصاد والادارة الحديثة، وكان يركز على سُبل الاستفادة من التكنولوجيا الغربية بأي حدود ممكنة ، ولتسويغ هذا الانفتاح اشتهر بمقولته: «ليس المهم لون القط، أبيض أم أسود، فهو قط جيد مادام قادراً على اصطياد الفأر»، واجتازت الصين مرحلتها الصعبة بفضل تطبيق هذه السياسة، وخصوصاً على أيدي القادة الجُدد الذين جاءوا بعده، لكن الجوهر الشمولي للنظام بقي على حاله مع تخفيف القبضة الحديدية الأمنية المخيفة التي اتبعها ماوتسي تونج ضد خصومه في الحزب والدولة والمجتمع إبان سني الثورة الثقافية، وتم اجتثات المظاهر المتبقية من عبادة القائد فاُزيلت كل صوره التي كانت تملأ الشوارع والمباني الحكومية والحزبية والمدارس والكتب الدراسية بعشرات الألوف واقتصر وجودها فقط على مكان في بكين يشكل معلماً تاريخيّاً للثورة، كما توقفت الاذاعة الرسمية عن بث الأغاني التي كانت تمجده.
على أن لينين (مؤسس الاتحاد السوفياتي وأول زعيم له) إثر الأزمة الاقتصادية التي واجهتها الدولة السوفياتية الفتية غداة انتهاء الحرب العالمية الأولى هو أول من اتبع هذه السياسة، وإن على نحو أضيق قبل التطبيق الصيني الأوسع لاحقاً، وقد عُرفت بـ «السياسة الاقتصادية الجديدة» أو الـ «Nep» . ولأن غورباتشوف آخر زعيم سوفياتي تسلم السلطة وقد بلغت علل جسم الدولة والحزب مبلغاً عظيماً ، فإنه فشل في ضبط الإفراط في سياسة الانفتاحين السياسي والاقتصادي على الغرب ولم يتحمل الجسد العليل الجرعات القوية الزائدة ، فإذا بالدواء يتحول إلى داء يفتك به بدلاً من انعاشه فتقويته ويغدو العلاج أشبه بالسم الانتحاري غير المقصود.
مناسبة هذه المقدمة التوضيحية الطويلة هو التمهيد لهذا السؤال: كيف تمكن معظم قادة الدول الاشتراكية الشمولية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية بعد سقوطها من التكيّف مع مقتضيات التحولات نحو الرأسمالية «الليبرالية « والتي شجع عليها الغرب ويصبحون بقدرة قادر هم أنفسهم رموز الإصلاح الليبرالي وقادة الأنظمة الجديدة التي شُيدت على أنقاض أنظمتهم الشيوعية؟ أو لم يكن بوتين الذي تمكن من إعادة بناء روسيا واستعادة شيء من عافيتها الاقتصادية وقوتها العسكرية هو نفسه الابن الشرعي للنظام الشيوعي المنهار، وأحد قادة مؤسسته الاستخباراتية؟ أو لم يكن الاتحاد السوفياتي هو الأقوى من الصين في موارده الطبيعية والبشرية؟ أو ليس هو الأجدر بانتهاج هذه السياسة الاقتصادية المرنة في ذلك الوقت ودراسة التجربة الصينية والاستفادة منها بدلاً من التعالي عليها واستمرار وصفها بالتحريفية حتى بعد رحيل ماو!
ناهيك عن الاستفادة من سياسة الـ Nep التي اتبعها مؤسس الدولة نفسه لينين، وما كان لتلك الأنظمة لتتهاوى تباعاً بتلك السرعة لولا أن الجيل التي يحكمها من القادة قد هرموا وطال بقاؤهم في السلطة، وظلوا ومساعدوهم متمسكين بتلك السياسات العقيمة المتقادمة، ولولا أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، تمكن من استدراج كبراها، الاتحاد السوفياتي، إلى سباق تسلح استنزافي رهيب لموارده المالية والاقتصادية جاء على حساب تطوير انتاجه الصناعي المدني!
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4875 - الإثنين 11 يناير 2016م الموافق 01 ربيع الثاني 1437هـ
مرحبا
شكرا الاستاذ ابو هيثم على هذا المقال الشيق والممتع