منذ سنوات وأنا أتابع التغيرات البيئية والطبيعية وعلاقتها بالمجتمع المحلي في قرية باربار. وبوجه عام يمكن القول إن تلك العلاقة لم تكن ايجابية، وخاصة في العقود الخمسة الأخيرة، وتحديدًا منذ مطلع ستينات القرن الماضي.
ولمعرفة طبيعة تلك العلاقة يمكننا أن نقسم تاريخ هذه العلاقة إلى مرحلة ما قبل الستينات حيث كانت العلاقة ايجابية، ويوجد تناغم بين عناصر ومكونات البيئة الطبيعية من طرف وعناصر ومكونات البيئة الاجتماعية من طرف آخر، إذ الاستخدام المدني والحضاري للبيئة في الحدود المعقولة والمقبولة. وفيما يبدو ظلت هذه العلاقة الحميمية بين المجتمع الأهلي القروي وبيئته قائمة لمئات السنين من دون أن يطغى أحدهما على الآخر ومن دون أن يترتب على أفعال المجتمع في البيئة أي نتائج سلبية أو تدميرية، لا للبيئة، ولا للإنسان.
فعلى سبيل المثال، كان البحر يمثل مصدر رزق حيويًّا بالنسبة إلى العديد من أهالي القرية وفي الوقت عينه يمثل متنفسًا ومكانًا مناسبًا للتنزه والاستمتاع بأوقات الفراغ وإقامة المناسبات والأفراح الاجتماعية. وما ينطبق على البحر ينطبق على البر والمتمثل في وجود المزارع والحدائق والغطاء النباتي الأخضر الواسع والمنتشر في كل أنحاء القرية والذي يمثل رئة للسكان وخاصة في فصل الصيف، ودور المساحة الخضراء في تلطيف درجة حرارة الصيف من جهة وتنقية الهواء من جهة أخرى.
أما فيما يتعلق بالبيئة العمرانية، فقد كانت محدودة ومتناسبة وصديقة للبيئة الطبيعية المحيطة المتمثلة في الغطاء المائي (البحر) والغطاء النباتي (المزارع والحقول والأحراج).هذا فضلاً عن الطبوغرافيا الخاصة بالقرية (تلال مرتفعات وسهول وسبخات ومستنقعات). بمعنى أن البيئة كانت مرتاحة في علاقتها بالمجتمع المحلي والعكس صحيح.
واستمر هذا الوضع قائمًا حتى مطلع الستينات من القرن الماضي إذ بدأت المرحلة الثانية والممتدة حتى اليوم. وهي مرحلة أصبح فيها المجتمع في القرية في علاقة سلبية مع البيئة من خلال مجموعة من المؤشرا ، وهذا ما سنوضحه أدناه.
فمنذ مطلع الستينات من القرن الماضي قام العديد من أهالي القرية ببيع أراضيهم ومزارعهم وحقولهم إلى أناس من خارج القرية وبالتالي التخلي عن الأرض والزراعة كمصدر للرزق وكنوع من العلاقة المتبادلة بين المزارع وأرضه، فقد كانت القرية تعيش شبه اكتفاء ذاتي مما تزرعه. هنا تخلى العديد من أهالي القرية عن عنصر مهم من عناصر البيئة / الزراعة. فما هي إلا بضع سنوات حتى يتآكل الغطاء النباتي في القرية.
وبمجرد تخلي الأهالي عن أملاكهم ومزارعهم بدأت ظاهرة المزارع الخاصة أو المسيّجة والتي أصبحت منتجعات ومصائف لملاكها الجدد وأصبحت بمعزل عن القرية وأهلها بعد أن كانت جزءًا لا يتجزأ من حياة الأهالي.
ثم بعد سنوات تالية تحولت المنتجعات والمزارع الخاصة إلى مجمعات سكنية خاصة منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي في القرية، لكنها بمعزل عن أهالي القرية. ثم حولت هذه المجمعات السكنية فيما بعد إلى مخططات وقسائم سكنية وعمرانية ومجمعات تجارية أدت بالضرورة إلى اختفاء الغطاء النباتي تماما وطغيان الحركة العمرانية، وبشكل جنوني ومن دون ضوابط، على كل المساحات الخضراء، وتصحير الأماكن الأخرى التي لم يشملها العمران من خلال اقتلاع الغطاء النباتي.
كذلك تخلي الأجيال اللاحقة من أهالي القرية عن العمل في الزراعة وهذا يمثل نوعًا من العلاقة السلبية مع الأرض، علاقة لم تكن موجودة لدى جيل الآباء والأجداد، بما أن الزراعة هي علاقة متبادلة بين الإنسان والأرض، عطاء متبادل، فما عادت الأرض ولا الزراعة تعني شيئًا للأجيال اللاحقة.
وعلى رغم التغير البطيء في البيئة الطبيعية فإن القرية وبعد أكثر من نصف قرن أصبحت مجموعة من البيوت الآخذة في الاتساع ليس فقط على حساب الغطاء الأخضر إنما على حساب المساحات المكشوفة والتي يمكن أن تكون زراعية في يوم مّا.
وكمؤشر على عدائية العلاقة مع البيئة. هذا التوسع العمراني السريع وغير الرحيم مع البيئة بحيث أصبحت القرية في غضون نصف قرن من الزمن أكبر أربع مرات من حجمها الأصلي. فقد كانت حتى السبعينات تتكون من ثلاثة أحياء (فرقان) وهي الآن تتكون من سبعة أحياء (مجمعات) وهذا بطبيعة الحال على حساب المساحات الخضراء وغير الخضراء. طبعا من دون أن ننكر الحاجة الماسة إلى التوسع العمراني، لكن بضوابط معينة تهدف إلى عدم الإخلال بالتوازن البيئي. كما يحدث الآن ومن دون حسيب ولا رقيب.
أيضاً من الأسباب في اتساع العلاقة السلبية مع البيئة اضمحلال العائلة الكبيرة إلى أسر صغيرة أو نووية كما تسمى في علم الاجتماع، وبالتالي الاستقلال في سكن منفصل، ما يؤدي تلقائيًّا إلى ازدياد الطلب على الأرض عموماً، وبما أن أراضي القرية في معظمها زراعية فإن هذا الطلب سيكون على حساب الغطاء النباتي بالتأكيد.
هذا فيما يتعلق بالعلاقة مع الغطاء الأخضر. لكن ماذا عن العلاقة بالعنصر الآخر؟ أقصد البحر.
إلى نهاية الثمانينات كان البحر وساحله في القرية يحتفظان بمكوناتهما الطبيعية ولم تتدخل فيهما يد الإنسان كثيرا. ومع ذلك فإن بداية العلاقة السلبية مع الساحل بدأت في نهاية الستينات وتحديداً في1968 وهي السنة التي افتتح فيها احد الأجانب مصنعا لتعليب وتصدير الروبيان على الساحل مباشرة، وكانت المخلفات ترمى في الساحل، ومن هنا بدأ العد التنازلي لتخريب الساحل. ثم تلا ذلك إنشاء بعض الفلل والعمران الخاصين على الساحل مباشرة وتسييج المزارع والمنتجعات الخاصة التي كانت تؤدي إلى الساحل. والبدء لاحقًا للأسف الشديد في رمي المخلفات والأنقاض على الساحل مباشرة من قبل أهالي القرية وغيرهم ودون اعتبار للموائل الطبيعية للعديد من الكائنات في هذا الساحل. لذلك نجد كثيرا من الكائنات قد انقرضت من جراء هذه الممارسات غير الصديقة للبيئة.
وبنهاية التسعينات اختفى الساحل بكل ما فيه من عناصر صديقة للبيئة، وذلك من خلال الزحف العمراني وإزالة الغطاء النباتي الاخضرتماًما الذي كان على تماس مباشر مع البحر، والقضاء على سواقي الماء وما فيها من كائنات مهمة للبيئة ودورة الحياة وتصحر المنطقة ثم تخطيطها للسكن من قبل مالكيها وضياع البحر والساحل بين هذه المساكن. أما الساحل نفسه فقد أصبح مكبا للأنقاض والمخلفات وكل ما لا يرغب فيه الأهالي.
أما العلاقة الأخطر (وهذا ليس من صنع الأهالي) فتتمثل في ردم ودفن للبحر المقابل للقرية وهو امتداد لدفان المدينة الشمالية. بحيث أصبح البحر الممتد مجرد خور صغير محاط بجبال الرمال يفقده كثيراً من طبيعيته التي تشكلت عبر ملايين السنين، وما يشكله ذلك من خطورة على البيئة البحرية ومن دون حساب للنتائج المستقبلية الخطيرة.
هذا الوضع لم يمر مرور الكرام، فقد تنادى بعض أهالي القرية لعمل شيء من أجل البيئة والحفاظ على ما تبقى، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى جهود نادي باربار منذ منتصف الثمانينات حتى الآن، وكذلك جهود جمعية باربار الخيرية. وهي جهود متميزة ومتنوعة، منها ما هو شعبي ومنها ما هو رسمي. كما لا يغيب عن البال تلك الجهود القيمة التي يقوم بها شبر الوداعي، وكذلك جهود البلدي السابق عبدالغني عبدالعزيز.
لكن مع كل هذه الجهود المشكورة، ماذا عن المستقبل البيئي في هذه القرية؟.
لا نملك جوابا قاطعا بالتأكيد للحلول المطلوبة لمثل هذا الوضع البيئي، لكننا سنقترح الآتي:
1 - وقف العلاقة السلبية للأهالي بالبيئة.
2 - إعادة تأهيل البيئة والحفاظ على ما تبقى.
3 - تدشين جهة لتنفيذ دراسات ايكولوجية تعنى بدراسة كيفية الحد من الأضرار البيئية وكذلك سبل معالجتها.
4 - إعادة النظر في تغيير طرق حياتنا بما يتناسب وظروف البيئة والحفاظ على مكوناتها من أجل الأجيال القادمة.
5 - إن الحلول المناسبة للتغلب على مشاكل البيئة في القرية يجب أن تكون جماعية وليست فردية؛ لأن خراب البيئة هو أيضا عمل جماعي وليس فرديا، أي أن المجتمع هو المسئول عن إعادة الاعتبار للبيئة.
6 - تدشين جماعة من المهتمين بالشأن البيئي في القرية من قبيل مثلاً: جماعة أصدقاء البيئة في قرية باربار، أو أي تسمية أخرى.
7 - تنفيذ الفعاليات الشعبية والرسمية النوعية للتعريف بالمخاطر التي تتهدد البيئة.
8 - اعتبار الوضع البيئي في القرية جزءا من الوضع العام في البحرين، وبالتالي ضرورة التعاون والتكامل مع بقية المناطق.
9 - تحمل الجهات الرسمية مسئولية ما يجري وبالتالي، وضع خطة حفاظاً على البيئة في مختلف مناطق البحرين.
10 - اعتماد مفهوم التنمية المستدامة في الحفاظ على البيئة والمتمثل في إعادة تدوير وتجديد الموارد الطبيعية المتاحة، بدلا من استنفادها أو تدميرها.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 4868 - الإثنين 04 يناير 2016م الموافق 24 ربيع الاول 1437هـ
ثقافة التشجير
العمل على حث الأهالي بثقافة التشجير سواء في المنازل الخاصة إن كان بالداخل او خارج المنازل للقرية كذلك لا ننسى الأماكن العامة والمفتوحة في القوية وكذلك جعل المقابر بحيث تكون كالحدائق ليس الأموات فقط إنما للأحياء
موضوع جداً قييم وشكرا للأستاذ يوسف مكي